رحلة تمنّاها السلطان عبد الحميد وحلم بها منذ أن ارتقى عرش الدولة العثمانية، رحلة تربّص بها الجميع كما تربصوا بمثيلتها التي بدأت منذ أربعة عشر قرنا حتى أتوا على كلتيهما وأجهزوا عليهما فمات بطلنا – خط الحجاز – قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى على يد الإنجليز الذين لم يلبثوا مع حلفائهم أن قضوا على آخر أبطال رحلتنا الأخرى – العثمانيين – بعد بضعة سنوات من سقوط قطارهم، لتتوقف الصافرة تماما معلنة نهاية الرحلة بعد تدمير القطار وتعثّر سائقه.
لم يكن خط الحجاز مجرد قطار أو قضبان، لم يكن مجرد خط حديدي، لكنه كان ملخّصا لرحلة العثمانيين ودولة الخلافة الإسلامية وتاريخها منذ عهد الخلفاء الراشدين وحتى إلغاء الخلافة في مارس 1924م.
في البداية كان الحلم الذي لم يصدقه الكثيرون، كانت العقبات لا تعد ولا تحصى لكن العثمانيين بذلوا من الجهد ما كفل لهذا الخط أن يخرج إلى النور وأن تلامس عجلات قطاراته قضبانه لتقطع الطريق من اسطنبول عاصمة دولة الخلافة إلى مدينة رسول الله وعاصمة الإسلام الأولى في خمسة أيام فقط بدلا من شهرين كاملين.
استطاع السلطان عبد الحميد أن يحقّق حلمه ويعيد وحدة مدن المسلمين، بل والمسلمين أنفسهم، برباط حديدي في هيئته ومعنوي عقائدي في رمزيته، بدأت أولى رحلات الخط بينما كان التاج العثماني يتهالك والدولة تمرض، تزامن افتتاح الخط في الأول من سبتمبر 1908م مع استيلاء جمعية الاتحاد والترقي على مقاليد الحكم في اسطنبول وتأهّبهم لإزاحة السلطان عبد الحميد وهو ما تم بعدها بعدة أشهر، فلم يهنأ الخليفة برؤية حلم الوحدة الإسلامية الذي تمناه واقعًا ملموسًا، تآمر الجميع عليه كما تآمروا لاحقا على حلمه فأطاحوا بالأول ودمروا الثاني.
ربما لم يكن هدف السلطان عبد الحميد الأوحد نصرة الدين بتشييد هذا الخط، ربما أراد بعض التأمين والحماية العسكرية، ربما حتى أراد المجد، لكن الأمر المؤكّد أن تدمير هذا الخط على يد الإنجليزي لورنس وبعض القبائل العربية لم يكن أبدا في سبيل نصر الدين ورفعته.
لقد استطاع هذا الخط أن يزيد من عدد الحجاج من ثمانين ألفا إلى ثلاثمائة ألف، استطاع أن يقيم نهضة حضارية واقتصادية على طول الطريق من اسطنبول وحتى المدينة المنورة، استطاع أن يجمع أهل دمشق والقدس ومصر والحجاز في مشهد لم نعد قادرين على رؤيته بعد توقف الخط عن العمل، استطاع هذا الخط أن يكون قلب العالم الإسلامي النابض والذي كف عن النبض يوم أن ظن بعض المسلمين أن لورنس سيمنحهم وطنًا أفضل إذا ما أنهوا هذه الرحلة، فأوقفوا القطار ولم يعلموا أنهم كانوا أحد ركابه.
ليست هناك تعليقات