رواية "سوف أحكي عنك" PDF تحميل مجانا للكاتب أحمد مهنى

Share:
11111111
سمعت انها تسكن بمكان قريب من هنا ... كل شئ فى ذلك المقهى يذكرنى بها ، حتى ذلك القهوجى الودود ، يقولون أن
ذلك المقهى كان أرض مقابر وكل العمائر المحيطة به ، لكن وجود النيل أضفى على المقابر مكاسب غير متوقعة ،
لذلك ازالوا المقابر ونقلوا الرفات وبنوا تلك العمائر الممتدة على الكورنيش حتى هنا . اتصلت بصديقى القديم لأسأله ان كان علم أى شئ عنها ولم يرد ، 

اشرت الى رزق بيدى من بعيد فاقترب مسرعاً وهو يبتسم ويقول : والله العظيم يا بيه ربنا وحده يعلم أد ايه انا بفرح لما بتكون موجود ، حكم يابيه مش كل الزبائن زى حضرتك ،ابتسمت له وطلبت منه قهوة مظبوط ، لا اجد قهوجى غير رزق فى هذا المقهى تقريبا ، فى اى وقت اتيت اجده هو ، لا اعرف ان كان هناك شخص اخر ام هو يقيم هنا دائما ، اجلس على هذا المقهى منذ ثلاث شهور تقريباً أكاد احفظ كل ما يردده الناس هنا ، الاستاذ شاهين دائما يلعب الطاولة وهو يؤنب خصمه على سلبية المجتمع وعم سيد التاكسجى يسرد حكايته التى لا تنتهى مع الشوارع ، رزق لا يتحدث مطلقاً ، دائما ما يقف امام المقهى يستند بظهره الى احد الواجهات الزجاجية يدخن سيجارة وينظر نحو النيل ، أحيانا لا يترك سيدة او فتاة تمر أمامه الا ويتفحصها جيدا وأحيانا أشعر أنه غير موجود ، عجيب أمر هذا الرجل ، يعاملنى جيدا برغم شروده الدائم مع الجميع ، لو علم أنى طبيب ربما يزيد من تودده لى .. ربما يطلب كشف مجانى . أحضر لى رزق فنجان القهوة وضعه امامى برفق وانطلق مسرعاً .. اتصلت بصديقى مرة اخرى ولم يرد .. كانت المقهى فى مقابل كورنيش المظلات مباشرة ... تستطيع ان ترى النيل من داخل المقهى ، بعد العصر يقوم رزق بطوى الشيش من واجهات المحل الزجاجية فيبدو النهار بضوءه الغير مشمس ، كنت فى مثل هذا الوقت انا وليلى نجلس بمقهى السمان بالاسكندرية ... يومها .. فى اخر يوم رأيتها ، فى ذلك اليوم القريب .. البعيد ، كنا قد اتفقنا على تفاصيل الخطوبة ، تحركت انا وهى من امام الجامعة سيرا حتى وصلنا بحرى ، لم نجد مكان فى قهوة فاروق فجلسنا بالسمان .. فى الداخل كان المقهى ممتلئ لكن احدهم اشار الى ترابيزة فارغة فى الجزء المرتفع من المقهى ، صعدنا ثلاث درجات ثم اخذنا عدة خطوات الى الترابيزة ... كانت مفروشة بمفارش بنية وعلى اطراف المفرش علامة ليبتون الصفراء ،جلسنا فى هدوء ولفت انتباهى فتاة يبدو من مظهرها انها لعوب تجلس خلف ليلى .. كانت تجلس منفردة تدخن سيجارة وتنظر نحو شخص يجلس مع بنت اخرى يبدو انها منافستها فى المنطقة .. غير أن الفتاة المنفردة كانت اجمل بكثير ، أشار لها برأسه كتحية عابرة منه فردت له الاشارة بغمزة من عينها ولم يقاطعهما سوى القهوجى وهو يضع لها كوب ليمون ساقع , اقترب منا القهوجى فطلبت عصير ليمون وطلبت ليلى فنجان قهوة مظبوط واكدت عليه أن يحضره فى فنجان ، فغمز لى ومضى مسرعاً ... منذ ان عرفتها وهى تفرط فى شرب القهوة بدرجة كبيرة ، نصحتها أن تقلل من شرب القهوة ضاحكاً وانا اقول لها ستسد شرايين الجهاز العصبى ، وعندما نتزوج لن تشعرى بشفاهى تلمس جلدك بسبب انهيار جهازك العصبى وكانت تضحك وتقول لا تحاول أن تقنعنى أنك أصبحت طبيب .. انت لسه تلميذ فى كلية الطب . لا تتوقف ليلى عن اضفاء صفة التحدى فى كل شئ تفعله ، وحدها تقتنع بما تريد أن تقتنع به ولا تسمح لأى شخص مهما كان أن يثنيها عن ارادتها ، عنيده حد الموت ، لكن فى اليوم الاخير بدا عليها القلق ، ألححت عليها فى أن تخبرنى عن السبب ولم تجبنى تعللت بعدة أشياء فى الدراسة والكلية وأصدقاءها وسألتنى عن ماذا سيحدث اذا دخلت الجيش بعد تخرجى ، لم اكن قد اعددت أى تخيل لهذا الاحتمال من قبل ، فكرت فى كل شئ باعتبار اننى سانهى دراستى واتزوجها ولم افكر فى الجيش ، قلت لها لا تقدّرى البلاء قبل وقوعه . يمكن لأى شيء أن يحدث إذا أصابنى الدور ودخلت الجيش ، أبى يستطيع أن يفعل اشياء كثيرة ،لا اعرف تحديدا ماذا يمكن فعله .. حينها تخيلت أننى عاجز عن تدبير أمورى بنفسى ، قلت لها ربما أهرب من الجيش وبعد مرور الوقت أدفع غرامة ويا دار ما دخلك شر ... كنت قد نسيت انها تكره أى حس يدفع الى عدم تحمل المسؤلية خاصة اذا كانت مسؤلية وطنية أو كما تحب أن تقولها مسؤلية اجتماعية ، تخيلت أن كلماتى الاخيرة أثارت حفيظتها لكنها لم تلتفت لقولى وبدا عليها الشرود ، تنهدت وطلبت عنّاب ، كانت ليلى تنظر نحو البحر بعينين هادئتين، لطالما لمحت فى عينيها ذلك الفتور ، لكن الفتور فى عينيها يحمل خلفه دائماً ثورة خبيئة لا يدركها سوى من اقترب من ليلى ، الفتور فى عينيها سرعان ما يتحول الى ثورة ملتهبة وكأن نيران العالم أجمع تشتعل داخلها حتى تحولت لون عيناها الى هذا السواد الدامس من فرط الاشتعال ، لم تكن جميلة على كل حال لكنها كانت جذابة ، تستطيع ان تثير حولها الفضول وتلفت لها النظر ، براقة برغم كل ما فى عينيها من غموض .
سألتها مرة اخرى عن سبب شعورى بانها ليست كعادتها ، ولم تلتفت ، كان ضوء الشمس خارج المقهى ينسحب تدريجياً فطلبت منى أن نخرج ...لم أحب مطلقاً ان أغادر المقهى قبل أن اعرف اى الفتاتين فى الجوار ستنتصر على الاخرى لكن الحاح ليلى جعلنى أمتثل لرغبتها .. تمشينا قليلاً فى اتجاه بحرى وكان محل ايس كريم النظامى قد اكتظ ، قلت لها مازحاً هتقولى مالك وإلا مفيش ايس كريم ؟ ، مازحتنى بعناد وقالت هجيب لنفسى . جلسنا على الشاطئ المقابل نأكل الايس كريم وكان هناك بعضا من الوافدين من خارج الاسكندرية يأخذوا صورا تذكارية بالقرب منا ، رأيت الشمس تنحسر خلف قلعة قايتباى على امتداد نظرى بينما كان العديد من مراكب الصيد الصغيرة تملئ الافق من خلفنا ، همست لى ليلى واشارت نحو الوافدين ، كان أحدهم ياخذ صورا وهو ينفث دخان سيجارته بعنف وبعد أن انتهى من اخذ الصورة القى سيجارته فى الماء ، فهمت ما تقصده ، اقتربت منى وقالت متوحشين .. اسكندرية بتنزف كل ما يجيها البقر دول . وجدت أن الوقت مناسب لأزايد على اشتراكيتها فقلت لها أظن من حقهم يشاركوكى اسكندرية ، محدش بيسرق الوطن من حد ، مش دا كلامك ؟ . قالت بتحدى بس البقر مش بيشاركوا الناس الوطن دول محتاجين تربية . لم أكن فى مزاج يسمح لى بالجدال معها خاصة وانها تصر على رأيها فى كل مرة ولا ترضخ أبداً لكلامى ، كان محل النظامى قد اذدحم جدا وقد انحسرت الشمس تماماً ولم يبقى غير سماء رمادية أوشكت على السواد ، قلت لها اريدك فى مشوار صغير وابتسمت ولم تمانع .
اقترب منى رزق بابتسامة قلقة وقال لى سجايرك خلصت يا بيه ، اتفضل سيجارة وعزم علىّ بسيجارة سوبر ، طلبت منه أن يجلس اذا كان يحب ذلك ، شكرته على السيجارة واعتذرت له .. فى كل الاحوال لم انسى اننى كنت يوما ثرى يقطن فى رشدى بالاسكندرية وأدخن السجائر المستوردة لكننى منذ اتيت القاهرة ولا تبدو علىّ مظاهر الثراء ، ربما لا تبدو علىّ أية مظاهر سألنى رزق . هو الواحد ممكن يموت عطشان ؟ ضحكت بشده على سؤاله ولما أحسست انى احرجته سكت فجأة ولم استطع أن اتلفظ للحظات ثم اخبرته انه قد يموت ايضاً من كثرة الشرب، تنهد وهو يقول . بس أنا هموت عطشان يا فندم ،ثم قام وهو يسألنى اذا كانت القهوة قد أعجبتنى .. استغربت كلمة يا فندم منه فلم تكن عادته سوى التلفظ بكلمة بيه ، أردت أن اتحدث معه أكثر لكنى سكت و لم استطع أن اجاوبه على سؤاله أيضاً ، فأنا لا احب طعم البن ولا أستطيع تمييز الجيد منه من الردئ ، كل ما اعرفه عن البن هو أن ليلى كانت تحب تناول القهوة بشدة وكنت امازحها كلما شربت أمامى فنجان اضافى ، طلبت من رزق أن يعطينى السيجارة .. أشعلتها ، أخذت نفساً طويلاً ، وارتحت أكثر فى جلستى ونظرت نحو النيل .
عندما انتهينا أنا وليلى من الايس كريم اتجهنا الى شارع فرنسا ، كانت محال الذهب تملأ الشارع وبين كل محل واخر تنطلق زغاريد ويصطف امام المحل مجموعة من العائلات يباركن لعروس مرتقبة ، بدا المشهد باعثاً على البهجة ، كنت أمشى وليلى صامتين ولم تكن تعرف ما اخطط له مسبقاً ، لمست يدها عن قصد ولم أجد رد فعل فكررتها ، ولما حاولت أن افعل الثالثة لكمتنى بقبضتها الدقيقة فى كتفى وقالت : اتلم ، . توقفت امام اكبر محل ذهب بشارع فرنسا وطلبت منها أن تختار هديتها بنفسها .. كنت متلهفاً لبسمتها .. طلبت منى أن نتمشى قليلا ، ولم اعترض ... انتقلنا من محل لآخر ، كنا نقف امام كل فاترينة لبضع دقائق ثم ننتقل الى اخرى فى محل اخر حتى انتهى بنا الشارع الى شارع اخر لم تكن انواره زئبقية صفراء شديدة الاضاءة كتلك التى توضع اعلى واجهات محال الذهب ، أمسكت يدى فجأة وجذبتى فى اتجاه المنشية ، ثم سرنا صامتين حتى ضريح الجندى المجهول .. عبرنا الطريق وجلسنا بمحاذاة الشاطئ .. أدرت ظهرى لساحة المنشية والجندى المجهول ونظرت نحو البحر وبقت ليلى تنظر الى الميدان وظهرها للبحر ، كدنا أن نكون متلاصقين لولا احتمالات النظرات المتفحصة الأكيدة من كل المارة ، كان القمر بدراً وكان ضوءه يصنع خطاً من الضوء منعكسا على سطح البحر وفى منتصف الخط فلوكة صغيرة بقت وحيده لا يركبها أحد فى هذا الليل الصقيع ، غير أن الغيوم أحاطت بالقمر من كل جهة وكأنها متعمدة أن تخنق ضوءه فخرج من بينها شعاع صغير من النور لا يرى له انعكاسا واضحا على البحر ، ولا ادرى كم مكثنا صامتين ، حتى ادارت ليلى ظهرها للناس ونظرت معى للبحر ، وقالت بهدوء . عندنا مظاهرة الصبح ، أنا اسفة ، لكن مش هقدر أقبل هديتك غير لما بكره يفوت على خير ، سألتها عن احتمالات عدم مروره على خير وأخبرتنى أن الاحتمالات زائدة فهى المسؤلة عن توصيل صور مطبوعة الى قيادات تنظيم المظاهرة ،ولم تكن تلك المظاهرة كسابقاتها .. كانت اعنف بمراحل، أخبرتنى ذلك وهمّت بالرحيل أمسكتها من يدها فظلت واقفة تنظر لى وأنا بعدى جالس ووجهى نحو البحر ، سألتها ان كانت تريدنى معها فى الصباح ، اخبرتنى أنها لا يمكن أن تطلب منى ذلك حتى لو كانت تريده ثم تركتى ومضت ، عبرت الطريق وركبت السيارة المتجهة الى شارع 45 ولم تنظر نحوى .
تتبعنى رزق بنظراته المُلِحة الغير مفهومة ، اعتدلت فى جلستى ثم ناديته ، اقترب منى مسرعاً فسألته إن كانت دورة المياة خالية وأجابنى أن نعم ... انتهيت من دورة المياة وعدت الى مكانى وكان عم سيد التاكسجى يهذى عن السادات كعادته ، سألته ان كان سيأخذنى فى طريقه الى العمل وأشاح بيده لى وهو يتمتم فضحكنا جميعاً ، كان رزق لا يزال يتتبعنى بنظراته ، اقتربت منه وهو يستند على احدى الواجهات الزجاجية للمقهى ، استندت معه على الواجهة الزجاجية وسألته ان كان بالامكان ان يخرج كرسيين ونجلس سوياً بالخارج فى هذا الهواء المتجدد ، قال لى انه لا يمكن فعل ذلك الا بعد الزوال ، أى زوال الشمس ولما سألته عن السبب قال . حكم يا بيه كان فيه ظابط بياخد المعلوم من المعلم كل شهر وفى مره طلب زياده والمعلم قاله منين دى القهوة مش جايبه همها، قام خلى الحىّ يشمعها وحيلك بقى على ما عرفنا نفتحها تانى ومن ساعتها متربصلنا ولولا المعلم هو كبير المنطقة وله ايد فى الحى والمحافظة والقسم ذات نفسه مكناش عرفنا نفتحها تانى ، كان يتحدث بشكل دراماتيكى ينفعل مع الكلام ويمثله ويتشنج معه ويهدأ حينا آخر .. سألته عن سبب تودده لى وقال انه يتعجب لأمرى ، أضع كوفية صوف على رقبتى فى عز الصيف واجلس وحدى رغم أن كل من بالمقهى تربطنى بهم صلة ومعرفة سابقة وهذا ما يدفعه لمحاولة اكتشافى ، كانت تمر أمامنا فتاة مثيرة ترتدى حذاء ذو كعب عالى ورقبة جلدية اقتربت ان تصل الى ركبتها وقد ادخلت الجينس داخل رقبة الحذاء ، كان الجينس ينحسر عليها وبدا منظره مثير من داخل الحذاء ، نظرت انا ورزق فى آن واحد الى الفتاة وتابعناها حتى ابتعدت ، لا اعرف لماذا جذبنى مظهر تلك الفتاة ، العقل وحده هو مصدر الاثارة ، حين نظرت اليها جالت برأسى ألف فكرة لعوب ، رمقنى رزق بعينه وضحك .. ضحك بشده وقال لى . مُزة أصلى .. ولم أجبه ضحكت أيضاً بشدة ، قهقهت معه حتى تمايلنا وأخذ يضرب كفه بكفى ، أحسست بهرمونات النشوة تجتاح جسدى وكأن كل الغدد الصماء تذكرت فجأة وظيفتها ، وكنت أختلج .. أختلج من الضحك وكأن نوبات الضحك امتدت ولن تتوقف حتى دمعت عينى وبدأت عضلات بطنى تنقبض من كثرة الاختلاج فبدأت اهدأ انا ورزق ونلهث باحثين عن مزيدا من الاوكسجين .. جلست الى اقرب كرسى وتركت رزق بالخارج ولم يضحك أحد معه هكذا من قبل ولم أجد أى سبب للضحك غير الرغبه فى الهروب من أى شئ حتى لو كانت مكالمة فى هاتف لا يجيب منذ الصباح ، محاولات للبحث عن المبالاة بشئ واحد هو الاستمتاع بلحظة واحده فى الحياة قبل الغوص فى لا مبالاة غير منتهية ، ضحكت لأنى لم أكن انتظر اخبار جيدة أو سيئة لم يكن بحياتى ما يدفعنى للبهجة او الحزن ، لم اقدم على محاولة للانتقام أو محاولة للابتكار ، لا اجد سوى شعور عميق بالندم ولا اعرف على ماذا أندم .. لكنى أندم فى كل يوم أكثر من زى قبل وأندم على انى لم أندم من قبل ، منذ قدمت هنا وأنا أساوى صفر ، صفر صحيح ومكتمل .. وهل يمكن لصفر أن ينقسم الى كسور ؟!! ، أنى أهذى ، لم أفعل سوى ما يجعلنى أظل هكذا صفراً خامداً لا أصبحت رقما موجباً ولا ايقنت أن قيمتى سالبة فأحاول التصحيح ، حتى الضحك لا يمكننى الهروب فيه ، وحدها ليلى يمكنها أن تجيب تساؤلاتى العديدة ، لماذا أصرت على الدخول فى المظاهرة ؟!!! . لو كانت أجابتنى قبل رحيلها ، قبل أن تركب تلك العربة المتجهة الى شارع 45 وتختفى فى لمح البصر ، لو كانت طلبت منى أن أقف بجوارها فى اليوم التالى ، لو كانت ألحت علىّ أن اكون الى جوارها ، أو كانت لعنتنى ورفضتنى ونعتتنى بالسلبى والجبان وأقسمت انها لو رأتنى فى المظاهرة لبصقت على وجهى لو كانت أخبرتنى من أول اليوم أنها ضمن اعضاء تنظيم المظاهرة ، لو اخبرتها أنا من البداية أنى أعرف بوجود مظاهرة فى اليوم التالى .. لكن شيئاً من هذا لم يحدث مطلقاً تركتنى وحيداً عند المنشية واختفت ، أضواء العربة من الخلف كانت تستفزنى وكأن احدهم يخرج لسانه لى فى ايام الطفولة ، وكأنها ايقونه تفيد الغيظ على شاشة الانترنت يطل منها وجه أصفر يخرج لساناً احمر طويل ، تركتنى ليلى فى هذا الليل الصقيع ومضت مسرعة ، جلست وحدى فى مكانى حتى منتصف الليل ، وكان البرد تشتد ضراوته ، وضعت يدىّ فى جيبى ووقفت نظرت يميناً ويساراً ولم استطع تحديد وجهتى ، تمشيت فى اتجاه محطة الرمل كانت الفنادق والمقاهى قد أقفلت ومع الاضواء الصفراء الملتهبة للميدان يبدوا مظهر واجهات الكازينوهات بديعا توجهت نحو الايليت أخذت الشارع كله فى سباق محموم مع البرد ، يلفحنى الهواء فارتجف واستقوى عليه فأسرع الخطى ، سمعت قعقعة نعل نسائى خلفى يمشى على وتيرة هادئة ثم بدأ يسرع قليلا ، ولما اقتربت منى بحيث أن أسمعها قالت " لمون " وضحكت بصوت ملحوظ ، نظرت خلفى فوجدتها الفتاة اللعوب التى كانت تجلس وحيدة فى مقهى السمان ، تعجبت منها وأكملت سيرى وكان بار الايليت يبدو واضحا على الرصيف الاخر ، هممت أن اعبر الطريق فكررت كلمتها " لمون " نظرت لها وقلت لها حضرتك تقصدينى ، ضحكت وقالت لى حضرتك ؟!! ويبدو انها استغربت الكلمة فأومأت لها أننى اقصدها بكلمة حضرتك . قالت هو انت اسمك لمون ؟ . ولم اجد مفر من أن اقترب منها ولا اعلم لماذا .. اخبرتها أننى سوف ادخل الايليت اذا أرادت أن تأتى معى ولم ترفض .
فى الداخل طلبت لنفسها قهوة وكنت أظنها ستطلب بيرة ، ولم أكن أشرب الخمر ، طلبت لنفسى مياه غازية .. ولم اتكلم ، كانت ترتدى جينس ضيق وحذاء ذو كعب عالى وله رقبه جلدية يعلوها شريط من فراء وقد ادخلت الجينس داخل رقبة الحذاء ، نظرت لها ووجهى يكسوه الركود ، لم اكن من نوعية الشباب الذين يصطحبون العاهرات وإن كنت لا امانع لكنى لم احب أن ابدأ ، لا اشرب الخمر لكنى أسهر مع اصدقائى فى سهرات حشيش متكررة ، لم أعرف لماذا عرضت عليها القدوم معى كان يمكننى تجاهلها من البداية ، اقتصرت فى السابق علاقاتى بمواعدات خارجيه ، فى كازينو أو فى شاطئ بعيد بالعجمى وكانت تنتهى المقابلة عادة بمداعبات صبيانية ، والان معى ساقطة محترفة ويغلفنا الصمت ، بدأت حديثها معى بالسؤال عن السجائر ولم يكن معى سجائر ، قالت . انا كنت هموت من الضحك لما طلبت لمون ورايا فى القهوة ، مين اللى كانت معاك. خطيبتى . بس مفيش فى ايدك دبلة . هنتخطب قريب . صاحبتك يعنى . ولم أجد رد لعلها تستهزئ بى ، سألتها عن ماذا حدث مع الرجل والفتاة الاخرى فى المقهى وضحكت ولم ترد ، كان الوقت يفوت نسكت تارة ونتحدث دقائق ثم سالتنى عن سبب شرودى ، واخبرتها عن كل شئ ، كنت كل عشر دقائق أطلب مشروب اضافى واشتريت لها علبة سجائر ، هى تدخن وأنا اتحدث ، قالت ليه . اوعى تسيبها .. روحلها الصبح وخلى بالك منها .. من يومين شفت ظابط ابن كلب ماسك شاب زيك تمام ومكلبش فيه ونازل فيه ضرب ، بكره يضربوا البنات ، لو مكانك يابقى معاها ياما موديهاش . كان الفجر قد اقترب قلت لها اننى سارحل وبقيت هى ، دفعت الحساب ووضعت لها خمسين جنيها تحت حقيبتها فقالت مسرعة . مطلبتش منك فلوس . لم أرد وخرجت ولم اراها ثانية ، تمشيت قليلا فى اتجاه محطة مصر .. كان الهواء يدفعنى الى ذلك الاتجاه ولم ارغب فى مواجهة البرد بوجهى أدرت له ظهرى ومشيت وعلى مسافة قريبة كان كباريه ليلى على الصف الاخر من النوع الذى تقضى فيه ليلة كامله تشرب وتشاهد راقصة وتدفع مبلغا زهيد .. وقفت أنظر اليه وأصوات الاغانى والصاجات تخرج الى الشارع خافته ، وارتفع الاذان فجأة فتوقف صوت الغناء بالداخل حتى انتهى الاذان فعاد الغناء من جديد ، ابتسمت ، تعجبت ومضيت فى طريقى ، كلنا متناقضون ، نوقف الرقص من أجل الاذان ثم نسكر ، أسهر مع فتاة ليل فى كازينو ثم أدعى اننى لا اشرب الخمر ، وما الخمر غير ما نفعله من تناقض !! ، الجميع حيرى ، لم أكن سكراناً ولا متيقظاً كنتُ صفراً خائباً لا يساوى شئ ، كان الشارع يرمى بى بسرعة فى اتجاه محطة مصر وحين اقتربت كان على يمينى سور حديدى كبير يخفى خلفه بقايا مدائن يونانية خربة اختفت تحت الارض ، كم من مدينة غرقت تحت الاسكندرية ، لعلها ابتعلت الكثير فى اخر يوم لها ، كانت كليوباترا تجرى وتصرخ ولا أظن ان يوليوس اجابها أشعل الحرائق فى المدائن كان الجنود يجرون ناحية الشمال وكان انطونيوس يزحف ناحية المدينة .. أظن ان هذا الشارع وتلك المدينه المهترئة تحديدا القابعة تحت قدمى هى مشهد الحرب الاخيرة .. خرب يوليوس الاساطيل حتى لا يصل لها انطونيوس لكنه وصل .. وصل فى النهاية ترى من طعن من أولا ، لكنى متأكد أن هنا تحديداً كان المشهد الاخير ، لعل كليبواترا صرخت عندما وقع يوليوس لكنها أخذت مكافئتها وأكثر ولم تستمر الاسكندرية كثيراً بعد ذلك اليوم ، أنى أهذى .. لم اكن سكران لكنى أهذى ، نظرت نحو الشارع الخلفى .. أمضيت وقتاً طويلا منذ أن ذهبت ليلى ، كان رجلا يسير مترنحاً نحوى .. اقترب منى وزعق فى وجهى . أنت عاوز تعرف منحرفين .. أنا بقى منحرفين ، وكان يبدو انه خرج حالا من الكباريه الرخيص ، استجمعت عزيمتى وزعقت فيه بكلمه واحدة . أمشى ، فجرى مسرعاً ، وكان ضوء الشمس بدأ يظهر والحركة بدأت تدب فى الشارع ، أوقفت تاكسي وذهبت للمنزل .





:) دا كان جزء من الفصل الاول 

الروابط PDF  تحميل قريبا

ليست هناك تعليقات