تفسير سورة الكهف ابن كثير كاملة

Share:
11111111
تفسير سورة الكهف

وهي مكية.
ذكر ما ورد في فضلها، والعشر الآيات من أولها وآخرها، وأنها عصمة من الدجال:
قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال:سمعت البراء يقول:قرأ رجل الكهف، وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة - أو:سحابة- قد غشيته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: « اقرأ فلان، فإنها السكينة تنـزلت عند القرآن، أو تنـزلت للقرآن » .
أخرجاه في الصحيحين، من حديث شعبة، به . وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو:أسَيْدُ بن الحُضَيْر، كما تقدم في تفسير البقرة .

وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، أخبرنا هَمّام بن يحيى، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مَعْدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من حَفظ عَشْرَ آيات من أول سورة الكهف، عُصِم من الدجال » .
رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي من حديث قتادة به . ولفظ الترمذي: « من حفظ الثلاث الآيات من أول الكهف »وقال:حسن صحيح.
طريق أخرى:قال [ الإمام ] أحمد:حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، عن قتادة سمعت سالم بن أبي الجعد يحدّث عن معدان، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عُصِم من فتنة الدجال » .
ورواه مسلم أيضا والنسائي، من حديث قتادة، به . وفي لفظ النسائي: « من قرأ عشر آيات من الكهف » ، فذكره.
حديث آخر:وقد رواه النسائي في « اليوم والليلة » عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن شعبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثَوْبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف، فإنه عصمة له من الدجال ».
فيحتمل أن سالما سمعه من ثوبان ومن أبي الدرداء.
وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا زبَّان بن فايد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من قرأ أول سورة الكهف وآخرها، كانت له نورًا من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نورًا ما بين الأرض إلى السماء » انفرد به أحمد ولم يخرجوه
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويْه [ في تفسيره ] بإسناد له غريب، عن خالد بن سعيد بن أبي مريم، عن نافع، عن ابن عمر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغُفر له ما بين الجمعتين » .
وهذا الحديث في رفعه نظر، وأحسن أحواله الوقف.
وهكذا روى الإمام: « سعيد بن منصور » في سننه، عن هُشَيْم بن بشيرٍ ، عن أبي هاشم ، عن أبي مِجْلَز، عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أنه قال:من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له مِنَ النور ما بينه وبين البيت العتيق.
هكذا وقع موقوفا، وكذا رواه الثوري، عن أبي هاشم ، به . من حديث أبي سعيد الخدري.
وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكر محمد بن المؤمل، حدثنا الفضيل بن محمد الشَّعراني، حدثنا نُعَيم بن حمَّاد، حدثنا هُشَيْم، حدثنا أبو هاشم، عن أبي مِجْلَز، عن قيس بن عُبَاد، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين » ، ثم قال:هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه، عن الحاكم ، ثم قال البيهقي:ورواه يحيى بن كثير، عن شعبة، عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من قرأ سورة الكهف كما أنـزلت كانت له نورًا يوم القيامة » . [ والله أعلم ] .
وفي « المختارة » للحافظ الضياء المقدسي من حديث عبد الله بن مصعب بن منظور بن زيد بن خالد الجهني، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي مرفوعًا: « من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة، وإن خرج الدجال عصم منه »
بسم الله الرحمن الرحيم
[ رب وفقني ]
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ( 1 ) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ( 2 ) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ( 3 ) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ( 4 )
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة؛ ولهذا حمد نفسه على إنـزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد، صلوات الله وسلامه عليه؛ فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابًا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، بينا واضحا جليًا نذيرًا للكافرين وبشيرًا للمؤمنين؛ ولهذا قال: ( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ) أي:لم يجعل فيه اعوجاجًا ولا زيغًا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيمًا؛ ولهذا قال: ( قَيِّمًا ) أي:مستقيمًا.
( لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ ) أي:لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذره بأسًا شديدًا، عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة ( مِنْ لَدُنْهُ ) أي:من عند الله الذي لا يُعَذّب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد.
( وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ ) أي:بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح ( أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ) أي:مثوبة عند الله جميلة
( مَاكِثِينَ فِيهِ ) في ثوابهم عند الله، وهو الجنة، خالدين فيه ( أَبَدًا ) دائمًا لا زوال له ولا انقضاء.
( وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) قال ابن إسحاق:وهم مشركو العرب في قولهم:نحن نعبد الملائكة، وهم بنات الله.

مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا ( 5 ) .
( مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ) أي:بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه من علم ( وَلا لآبَائِهِمْ ) أي:أسلافهم.
( كَبُرَتْ كَلِمَةً ) :نصب على التمييز، تقديره:كبرت كلمتهم هذه كلمة.
وقيل:على التعجب، تقديره:أعظم بكلمتهم كلمة، كما تقول:أكرم بزيد رجلا قاله بعض البصريين. وقرأ ذلك بعض قراء مكة: ( كَبُرَتْ كَلِمَةً ) كما يقال:عَظُم قولُك، وكبر شأنُك.
والمعنى على قراءة الجمهور أظهر؛ فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم؛ ولهذا قال: ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) أي:ليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم؛ ولهذا قال: ( إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا ) .
وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نـزول هذه السورة الكريمة، فقال:حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعَيط، إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم:سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال:فقالت لهم:سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بِهِن، فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل مُتَقَول فَرَوا فيه رأيكم:سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان من أمرهم؟ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبَؤه ؟ [ وسلوه عن الروح، ما هو؟ ] فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:يا محمد، أخبرنا:فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أخبركم غدا بما سألتم عنه » . ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، لا يُحدث الله إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل، عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا:وعدنا محمد غدًا، واليوم خمسَ عشرةَ قد أصبحنا فيها، لا يُخبرنا بشيء عما سألناه عنه. وحتى أحزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكثُ الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل، عليه السلام، من عند الله، عز وجل، بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخَبَر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا [ الإسراء:85 ]
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ( 6 ) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا (7 ) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ( 8 ) .
يقول تعالى مسليًا رسوله صلى الله عليه وسلم في حزنه على المشركين، لتركهم الإيمان وبعدهم عنه، كما قال تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [ فاطر:8 ] ، وقال وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [ النحل:127 ] ، وقال لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [ الشعراء:3 ]
باخع:أي مهلك نفسك بحزنك عليهم؛ ولهذا قال ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ ) يعني:القرآن ( أَسَفًا) يقول:لا تهلك نفسك أسفًا.
قال قتادة:قَاتِل نَفْسَكَ غضبًا وحزنًا عليهم. وقال مجاهد:جزعًا. والمعنى متقارب، أي:لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارًا فانية مُزيَّنة بزينة زائلة. وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار، فقال: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) .
قال قتادة، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء »
ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها، وفراغها وانقضائها، وذهابها وخرابها، فقال: ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) أي:وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فنجعل كل شيء عليها هالكًا ( صَعِيدًا جُرُزًا ) :لا يُنْبِت ولا ينتفع به، كما قال العوفي، عن ابن عباس في قوله تعالى ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) يقول:يهلك كل شيء عليها ويبيد. وقال مجاهد: ( صَعِيدًا جُرُزًا ) بلقعًا.
وقال قتادة:الصعيد:الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات.
وقال ابن زيد:الصعيد:الأرض التي ليس فيها شيء، ألا ترى إلى قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ [ السجدة:27 ] .
وقال محمد بن إسحاق: ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) يعني الأرض، إن ما عليها لفان وبائد، وإن المرجع لإلى الله فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى.
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ( 9 ) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ( 10 ) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ( 11 ) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ( 12)
هذا إخبار عن قصة أصحاب الكهف [ والرقيم ] على سبيل الإجمال والاختصار، ثم بسطها بعد ذلك فقال: ( أَمْ حَسِبْتَ ) يعني:يا محمد ( أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) أي:ليس أمرهم عجيبا في قدرتنا وسلطاننا، فإن خلْق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب، وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى، وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف [ والرقيم ] كما قال ابن جريج عن مجاهد: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) يقول:قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك!
وقال العوفي، عن ابن عباس: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) يقول:الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب، أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
وقال محمد بن إسحاق:ما أظهرت من حججي على العباد، أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
[ وأما « الكهف » فهو:الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون. وأما « الرقيم » ] فقال العوفي، عن ابن عباس:هو واد قريب من أيلَة. وكذا قال عطية العوفي، وقتادة.
وقال الضحاك:أما « الكهف » فهو:غار الوادي، و « الرقيم » :اسم الوادي.
وقال مجاهد: « الرقيم » :كان بنيانهم ويقول بعضهم:هو الوادي الذي فيه كهفهم.
وقال عبد الرزاق:أخبرنا الثوري، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: « الرقيم » ، قال:يزعم كعب أنها القرية.
وقال ابن جريج عن ابن عباس: « الرقيم » الجبل الذي فيه الكهف.
وقال ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن [ مجاهد عن ] ابن عباس قال:اسم ذلك الجبل بنجلوس.
وقال ابن جريج:أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي:أن اسم جبل الكهف بنجلوس، واسم الكهف حيزم، والكلب حمران.
وقال عبد الرزاق:أنبأنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:القرآن أعلمه إلا حَنَانًا، والأواه، والرقيم.
وقال ابن جريج:أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة يقول:قال ابن عباس:ما أدري ما الرقيم؟ أكتاب أم بنيان؟
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:الرقيم:الكتاب. وقال سعيد بن جبير: [ الرقيم ] لوح من حجارة، كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:الرقيم:الكتاب. ثم قرأ: كِتَابٌ مَرْقُومٌ [ المطففين:9 ]
وهذا هو الظاهر من الآية، وهو اختيار ابن جرير قال: « الرقيم » فعيل بمعنى مرقوم، كما يقول للمقتول:قتيل، وللمجروح:جريح. والله أعلم.
وقوله: ( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ) يخبر تعالى عن أولئك الفتية، الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فَهَرَبوا منه فَلَجَؤُوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم: ( رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) أي:هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا ( وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ) أي:وقدر لنا من أمرنا هذا رشدا، أي:اجعل عاقبتنا رشدًا كما جاء في الحديث: « وما قضيت لنا من قضاء، فاجعل عاقبته رشدًا » ، وفي المسند من حديث بُسْر بن أبي أرطاة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: « اللهم، أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة » .
وقوله: ( فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ) أي:ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ) أي:من رقدتهم تلك، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعامًا يأكلونه، كما سيأتي بيانه وتفصيله؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ) أي:المختلفين فيهم ( أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) قيل:عددًا وقيل:غاية فإن الأمد الغاية كقوله
سَبَقَ الجَوَاد إذَا اسْتَولى على الأمَد.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ( 13 ) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ( 14 ) هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ( 15 )
من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها، فذكر تعالى أنهم فتية - وهم الشباب- وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ، الذين قد عتوا وعَسَوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابًا. وأما المشايخ من قريش، فعامتهم بَقُوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابًا.
قال مجاهد:بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني:الحَلَق فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم. فآمنوا بربهم، أي:اعترفوا له بالوحدانية، وشهدوا أنه لا إله إلا هو.
وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) :استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله، وأنه يزيد وينقص؛ ولهذا قال تعالى: ( وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) كَمَا قَالَ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [ محمد:17 ] ، وقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [ التوبة:124 ] ، وقال لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [ الفتح:4 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.
وقد ذكر أنهم كانوا على دين عيسى ابن مريم، عليه السلام، والله أعلم - والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية، فإنه لو كانوا على دين النصرانية، لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم، لمباينتهم لهم. وقد تقدم عن ابن عباس:أن قريشًا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب، وأنه متقدم على دين النصرانية، والله أعلم.
وقوله: ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول تعالى:وصَبَّرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يومًا في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له: « دقيانوس » ، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه. فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها، لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض. فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه، وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية. فكان أول من جلس منهم [ وحده ] أحدهم، جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر، وجاء الآخر، وجاء الآخر، ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقًا، من حديث يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الأرواح جنود مُجَنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف » . وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والناس يقولون:الجنسية علة الضم.
والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه، خوفًا منهم، ولا يدري أنهم مثله، حتى قال أحدهم:تعلمون - والله يا قوم- إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم، إلا شيء فليظهر كل واحد منكم بأمره. فقال آخر:أما أنا فإني [ والله ] رأيت ما قومي عليه، فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد [ وحده ] ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء:السموات والأرض وما بينهما. وقال الآخر:وأنا والله وقع لي كذلك. وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يدًا واحدة وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبدًا يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله عز وجل؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ) ولن:لنفي التأبيد، أي:لا يقع منا هذا أبدًا؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا؛ ولهذا قال عنهم: ( لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) أي:باطِلا وكذبًا وبهتانًا.
( هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ) أي:هَلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحًا صحيحًا؟! (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) يقولون:بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك، فيقال:إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله، أبى عليهم، وتَهَدّدهم وتوعدهم، وأمر بنـزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجَّلهم لينظروا في أمرهم، لعلهم يراجعون دينهم الذي كانوا عليه. وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه. والفرار بدينهم من الفتنة.
وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفًا على دينه، كما جاء في الحديث: « يوشك أن يكون خيرُ مال أحدكم غنمًا يتبع بها شغف الجبال ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن » ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع.

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ( 16 )
فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله: ( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ) أي:وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضًا بأبدانكم ( فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) أي:يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم ( وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ ) [ أي ] الذي أنتم فيه، ( مِرفَقًا ) أي:أمرًا ترتفقون به. فعند ذلك خرجوا هُرابًا إلى الكهف، فأووا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتَطَلَّبهم الملك فيقال:إنه لم يظفر بهم، وعَمَّى الله عليه خبرهم. كما فعل بنبيه [ محمد ] صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق، حين لجأ إلى غار ثور، وجاء المشركون من قريش في الطلب، فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله:يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال: « يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ » ، وقد قال تعالى: إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْـزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ التوبة:40 ] فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف، وقد قيل:إن قومهم ظفروا بهم، وقفوا على باب الغار الذي دخلوه، فقالوا:ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم. فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعل [ لهم ] ذلك. وفي هذا نظر، والله أعلم؛ فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشية، كما قال تعالى:
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ( 17 ) .
هذا دليل على أن باب هذا الكهف من نحو الشمال؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ( ذَاتَ الْيَمِينِ ) أي:يتقلص الفيء يمنة كما قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة: ( تَزَاوَرُ ) أي:تميل؛ وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان؛ ولهذا قال: ( وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ) أي:تدخل إلى غارهم من شمال بابه، وهو من ناحية المشرق، فدل على صحة ما قلناه، وهذا بيّن لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة، وسير الشمس والقمر والكواكب، وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب، ولا تزاور الفيء يمينًا ولا شمالا ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب. فتعين ما ذكرناه ولله الحمد.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: ( تَقْرِضُهُمْ ) تتركهم.
وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض؛ إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي. وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالا فتقدم عن ابن عباس أنه قال: [ هو ] قريب من أيلة. وقال ابن إسحاق:هو عند نِينَوَى. وقيل:ببلاد الروم. وقيل:ببلاد البلقاء. والله أعلم بأي بلاد الله هو. ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله ورسوله إليه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما تركت شيئًا يقربكم إلى [ الجنة ] ويباعدكم من النار، إلا وقد أعلمتكم به » . فأعلمنا تعالى بصفته، ولم يعلمنا بمكانه، فقال ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ) قال مالك، عن زيد بن أسلم:تميل ( ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) أي:في متسع منه داخلا بحيث لا تمسهم؛ إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم قاله ابن عباس.
( ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ) حيث أرشدهم تعالى إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم؛ ولهذا قال: ( ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ )
ثم قال: ( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ) أي:هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم، فإنه من هداه الله اهتدى، ومن أضله فلا هادي له.
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ( 18 )
ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم، لم تنطبق أعينهم؛ لئلا يسرع إليها البلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها؛ ولهذا قال تعالى: ( وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ) وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينًا ويفتح عينًا، ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد، كما قال الشاعر
يَنَــامُ بــإحْدَى مُقْلتَيــه وَيَتَّقِــيبـأخْرَى الرزايـا فَهْـوَ يَقْظَـانُ نَـائِمُ
وقوله تعالى: ( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ) قال بعض السلف:يقلبون في العام مرتين. قال ابن عباس:لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض.
وقوله: ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) قال ابن عباس، وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير الوصيد:الفناء.
وقال ابن عباس:بالباب. وقيل:بالصعيد، وهو التراب. والصحيح أنه بالفناء، وهو الباب، ومنه قوله تعالى: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ [الهمزة:8 ] أي:مطبقة مغلقة. ويقال: « وَصِيد » و « أصيد » .
ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب.
قال ابن جريج يحرس عليهم الباب. وهذا من سجيته وطبيعته، حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم، وكان جلوسه خارج الباب؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب - كما ورد في الصحيح - ولا صورة ولا جُنُب ولا كافر، كما ورد به الحديث الحسن وشملت كلبهم بركتهم، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال. وهذا فائدة صحبة الأخيار؛ فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن.
وقد قيل:إنه كان كلب صيد لأحدهم، وهو الأشبه. وقيل:كان كلب طباخ الملك، وقد كان وافقهم على الدين فصحبه كلبه فالله أعلم.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة « همام بن الوليد الدمشقي » :حدثنا صَدَقَة بن عمر الغَسَّاني، حدثنا عباد المِنْقَري، سمعت الحسن البصري، رحمه الله، يقول:كان اسم كبش إبراهيم:جرير واسم هدهد سليمان:عَنْقَز، واسم كلب أصحاب الكهف:قطمير، واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه:بهموت. وهبط آدم، عليه السلام، بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدست بيسان، والحية بأصبهان
وقد تقدم عن شعيب الجبائي أنه سماه:حمران.
واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها، ولا طائل تحتها ولا دليل عليها، ولا حاجة إليها، بل هي مما ينهى عنه، فإن مستندها رجم بالغيب.
وقوله تعالى: ( لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ) أي:أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم، لما له في ذلك من الحجة والحكمة البالغة، والرحمة الواسعة.
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ( 19 ) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ( 20 )
يقول تعالى:وكما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئًا، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين؛ ولهذا تساءلوا بينهم: ( كَمْ لَبِثْتُمْ ) ؟ أي:كم رقدتم؟ ( قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار؛ ولهذا استدركوا فقالوا: ( أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ) أي:الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تَرَدّد في كثرة نومهم، فالله أعلم، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا: ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ ) أي:فضتكم هذه. وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها وبقي منها؛ فلهذا قالوا: ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ) أي:مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد.
( فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ) أي:أطيب طعامًا، كقوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [ النور:21 ] وقوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [ الأعلى:14 ] ومنه الزكاة التي تُطَيب المال وتطهره. وقيل:أكثر طعامًا، ومنه زكاة الزرع إذا كثر، قال الشاعر:
قَبَاِئُلنـــا سَــبْعٌ وَأَنْتُــمْ ثَلاثَــةٌوَللسَّـبْعُ أزْكَـى مِـنْ ثَـلاثٍ وَأطْيَبُ
والصحيح الأول؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال، سواء كان قليلا أو كثيرا.
وقوله ( وَلْيَتَلَطَّفْ ) أي:في خروجه وذهابه، وشرائه وإيابه، يقولون:وَلْيَتَخَفَّ كل ما يقدر عليه ( وَلا يُشْعِرَنَّ ) أي:ولا يعلمن ( بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ) أي:إن علموا بمكانكم، ( يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ) يعنون أصحاب دقيانوس، يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، وإن واتَوهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال ( وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ) .

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ( 21 )
يقول تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ) أي:أطلعنا عليهم الناس ( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا )
ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة. وقال عكرمة:كان منهم طائفة قد قالوا:تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد. فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك.
وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة، في شراء شيء لهم ليأكلوه، تنكر وخرج يمشي في غير الجادة، حتى انتهى إلى المدينة، وذكروا أن اسمها دقسوس وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرنًا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، وأمة بعد أمة، وتغيرت البلاد ومن عليها، كما قال الشاعر:
أمــا الدّيــارُ فَإنَّهــا كَديــارهِموَأرَى رجــالَ الحَـي غَـيْرَ رجَالـه
فجعل لا يرى شيئًا من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحدًا من أهلها، لا خواصها ولا عوامها، فجعل يتحير في نفسه ويقول:لعل بي جنونًا أو مسًا، أو أنا حالم، ويقول:والله ما بي شيء من ذلك، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة. ثم قال:إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي. ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام، فدفع إليه ما معه من النفقة، وسأله أن يبيعه بها طعامًا. فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضَرْبها، فدفعها إلى جاره، وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون:لعل هذا قد وجد كنـزا. فسألوه عن أمره، ومن أين له هذه النفقة؟ لعله وجدها من كنـز. ومن أنت؟ فجعل يقول:أنا من أهل هذه المدينة وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس. فنسبوه إلى الجنون، فحملوه إلى وليّ أمرهم، فسأله عن شأنه وعن أمره حتى أخبرهم بأمره، وهو متحير في حاله، وما هو فيه. فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف:مُتَوَلّى البلد وأهلها، حتى انتهى بهم إلى الكهف، فقال:دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي، فيقال:إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبره ويقال:بل دخلوا عليهم، ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم، وكان مسلمًا فيما قيل، واسمه تيدوسيس ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه، وعادوا إلى مضاجعهم، وتوفاهم الله، عز وجل، فالله أعلم.
قال قتادة:غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة، فمروا بكهف في بلاد الروم، فرأوا فيه عظامًا، فقال قائل:هذه عظام أهل الكهف؟ فقال ابن عباس:لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة. رواه ابن جرير.
وقوله: ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ) أي:كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان ( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) أي:في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم ( فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) أي:سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا )
حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين:أحدهما:إنهم المسلمون منهم. والثاني:أهل الشرك منهم، فالله أعلم
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد » يحذر ما فعلوا. وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمر أن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، فيها شيء من الملاحم وغيرها.
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ( 22 )
يقول تعالى مخبرًا عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكى ثلاثة أقوال، فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضَعَّف القولين الأولين بقوله: ( رَجْمًا بِالْغَيْبِ ) أي:قولا بلا علم، كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب فبلا قصد، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: ( وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر.
وقوله: ( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ) إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به، وإلا وَقَفْنَا حيث وقفنا.
وقوله: ( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ) أي:من الناس. قال قتادة:قال ابن عباس:أنا من القليل الذي استثنى الله، عز وجل، كانوا سبعة. وكذا روى ابن جريج، عن عطاء الخراساني عنه أنه كان يقول:أنا ممن استثنى الله، ويقول:عدتهم سبعة.
وقال ابن جرير:حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن، حدثنا إسرائيل، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ) قال:أنا من القليل، كانوا سبعة.
فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس:أنهم كانوا سبعة، وهو موافق لما قدمناه.
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار عن عبد الله بن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال:لقد حُدّثتُ أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وَضَح الوَرِق. قال ابن عباس:فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله، يبكون ويستغيثون بالله، وكانوا ثمانية نفر:مكسلمينا وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم، و مجسيميلنينا وتمليخا ومرطونس، وكشطونس، وبيرونس، وديموس، ويطونس وقالوش.
هكذا وقع في هذه الرواية، ويحتمل هذا من كلام ابن إسحاق، ومن بينه وبينه، فإن الصحيح عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة، وهو ظاهر الآية. وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم كلبهم حمران ، وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته، والله أعلم؛ فإن غالب ذلك مُتَلَقَّى من أهل الكتاب، وقد قال تعالى: ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) أي:سهلا هينًا؛ فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة ( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) أي:فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجما بالغيب، أي من غير استناد إلى كلام معصوم، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال.
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ( 23 ) إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24 )
هذا إرشاد من الله لرسوله الله صلوات الله وسلامه عليه، إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل، أن يرد ذلك إلى مشيئة الله، عز وجل، علام الغيوب، الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه [ قال ] قال سليمان بن داود عليهما السلام:لأطوفن الليلة على سبعين امرأة - وفي رواية تسعين امرأة. وفي رواية:مائة امرأة- تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقيل له - وفي رواية:فقال له الملك- قل:إن شاء الله. فلم يقل فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان « ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » والذي نفسي بيده، لو قال: « إن شاء الله » لم يحنث، وكان دركا لحاجته « ، وفي رواية: » ولقاتلوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون
وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نـزول هذه الآية في قول النبي صلى الله عليه وسلم، لما سئل عن قصة أصحاب الكهف: « غدًا أجيبكم » . فتأخر الوحي خمسة عشر يومًا، وقد ذكرناه بطوله في أول السورة، فأغنى عن إعادته.
وقوله: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) قيل:معناه إذا نسيت الاستثناء، فاستثن عند ذكرك له. قاله أبو العالية، والحسن البصري.
وقال هشيم، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس في الرجل يحلف؟ قال:له أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) في ذلك. قيل للأعمش:سمعته عن مجاهد؟ قال حدثني به ليث بن أبي سليم، يرى ذهب كسائي هذا.
ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، به .
ومعنى قول ابن عباس: « أنه يستثني ولو بعد سنة » أي:إذا نسي أن يقول في حلفه أو كلامه « إن شاء الله » وذكر ولو بعد سنة، فالسُّنة له أن يقول ذلك، ليكون آتيا بسُنَّة الاستثناء، حتى ولو كان بعد الحنث، قال ابن جرير، رحمه الله، ونص على ذلك، لا أن يكون [ ذلك ] رافعًا لحنث اليمين ومسقطًا للكفارة. وهذا الذي قاله ابن جرير، رحمه الله، هو الصحيح، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه، والله أعلم.
وقال عكرمة: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) أي:إذا غضبت. وهذا تفسير باللازم.
وقال الطبراني:حدثنا أحمد بن يحيى الحُلْواني، حدثنا سعيد بن سليمان، عن عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس: ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) أن تقول:إن شاء الله [ وهذا تفسير باللازم ] .
وقال الطبراني:حدثنا محمد بن الحارث الجُبيلي حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد العزيز بن حُصَيْن، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) أن تقول:إن شاء الله.
وروى الطبراني، أيضًا عن ابن عباس في قوله: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) الاستثناء، فاستثن إذا ذكرت. وقال:هي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه ثم قال:تَفَرَّد به الوليد، عن عبد العزيز بن الحصين .
ويحتمل في الآية وجه آخر، وهو أن يكون الله، عز وجل، قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان، كما قال فتى موسى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [ الكهف:63 ] وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان، فذكر الله سبب للذكر ؛ ولهذا قال: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) .
وقوله: ( وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ) أي:إذا سئُلت عن شيء لا تعلمه، فاسأل الله فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد [ في ذلك ] وقيل في تفسيره غير ذلك في تفسيره، والله أعلم.
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ( 25 ) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ( 26 )
هذا خبَر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم، منذ أرقدهم الله إلى أن بعثهم وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلاثمائة [ سنة ] وتسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة [ سنة ] بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين؛ فلهذا قال بعد الثلاثمائة: ( وَازْدَادُوا تِسْعًا )
وقوله: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) أي:إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك [ علم ] في ذلك وتوقيف من الله، عز وجل فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: ( اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) أي:لا يعلم ذلك إلا هو أو من أطلعه الله عليه من خَلْقه، وهذا الذي قلناه، عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد، وغير واحد من السلف والخلف.
وقال قتادة في قوله: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) هذا قول أهل الكتاب، وقد رده الله تعالى بقوله: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) قال:وفي قراءة عبد الله: « وقالوا:ولبثوا » ، يعني أنه قاله الناس
وهكذا قال - كما قال قتادة- مُطرَف بن عبد الله.
وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر، فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع، يعنون بالشمسية، ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال: ( وَازْدَادُوا تِسْعًا ) وظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله، لا حكاية عنهم. وهذا اختيار ابن جرير، رحمه الله. ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة، ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور فلا يحتج بها، والله أعلم.
وقوله: ( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) أي:إنه لبصير بهم سميع لهم.
قال ابن جرير:وذلك في معنى المبالغة في المدح، كأنه قيل:ما أبصره وأسمعه، وتأويل الكلام:ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
ثم روي عن قتادة في قوله: ( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع.
وقال ابن زيد: ( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) يرى أعمالهم، ويسمع ذلك منهم سميعًا بصيرًا.
وقوله: ( مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ) أي:أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر، الذي لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير، تعالى وتقدس.
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( 27 )
يقول تعالى آمرًا رسوله [ عليه الصلاة والسلام ] بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس: ( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) أي:لا مغير لها ولا محرف ولا مؤوّل.
وقوله: ( وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) [ عن مجاهد: ( مُلْتَحَدًا ) قال:ملجأ. وعن قتادة:وليًا ولا مولى ] قال ابن جرير:يقول إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك، فإنه لا ملجأ لك من الله « . كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ المائدة:67 ] ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [ القصص:85 ] أي:سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة.»

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ( 28 )
وقوله: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) أي:اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه، ويسألونه بكرة وعشيًا من عباد الله، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء. يقال:إنها نـزلت في أشراف قريش، حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب [وخباب ] وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة. فنهاه الله عن ذلك، فقال: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ الآية [ الأنعام:52 ] الآية، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء، فقال: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )
وقال مسلم في صحيحه:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، عن إسرائيل، عن المقدام بن شُرَيْح، عن أبيه، عن سعد - هو ابن أبي وقاص- قال:كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم:اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا!. قال:وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال ورجلان نسيت اسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه، فأنـزل الله عز وجل: ( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري
وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي التَّيَّاح قال:سمعت أبا الجعد يحدّث عن أبي أمامة قال:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص، فأمسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قُص، فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس، أحب إليَّ من أن أعتق أربع رقاب »
وقال الإمام أحمد أيضا:حدثنا هاشم حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن مَيْسَرة قال:سمعت كُرْدُوس بن قيس - وكان قاص العامة بالكوفة- يقول:أخبرني رجل من أصحاب بدر:أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب » . قال شعبة:فقلت:أي مجلس؟ قال:كان قاصا
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده:حدثنا محمد، حدثنا يزيد بن أبان، عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لأن أجالس قومًا يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس، أحَبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحبّ إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفًا » . فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس، فبلغت ستة وتسعين ألفًا، وهاهنا من يقول: « أربعة من ولد إسماعيل » والله ما قال إلا ثمانية، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفًا
وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا عمرو بن ثابت، عن علي بن الأقمر، عن الأغر أبي مسلم - وهو الكوفي- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يقرأ سورة الكهف، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم » .
هكذا رواه أبو أحمد، عن عمرو بن ثابت، عن علي بن الأقمر، عن الأغر مرسلا. وحدثناه يحيى بن المعلى، عن منصور، حدثنا محمد بن الصلت، حدثنا عمرو بن ثابت، عن علي بن الأقمر، عن الأغر أبي مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل يقرأ سورة الحِجْر أو سورة الكهف، فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم » .
وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون المَرئي، حدثنا ميمون بن سِيَاه، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله، لا يريدون بذلك إلا وجهه، إلا ناداهم مناد من السماء:أن قوموا مغفورًا لكم، قد بُدِّلت سيئاتُكُم حسنات » تفرد به أحمد، رحمه الله.
وقال الطبراني:حدثنا إسماعيل بن الحسن، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، عن أسامة بن زيد عن أبي حازم، عن عبد الرحمن بن سهل بن حُنيف قال:نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بعض أبياته: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) فخرج يلتمسهم، فوجد قومًا يذكرون الله تعالى، منهم ثائر الرأس، وجافي الجلد وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم وقال: « الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم »
عبد الرحمن هذا، ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة وأما أبوه فمن سادات الصحابة، رضي الله عنهم.
وقوله: ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال ابن عباس:ولا تجاوزهم إلى غيرهم:يعني:تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة.
( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ) أي:شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا ( [ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ] وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) أي:أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع، ولا تكن مطيعًا له ولا محبًا لطريقته، ولا تغبطه بما هو فيه، كما قال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [ طه:131 ]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ( 29 )
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم:وقل يا محمد للناس:هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) هذا من باب التهديد والوعيد الشديد؛ ولهذا قال: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا ) أي:أرصدنا ( لِلظَّالِمِينَ ) وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه ( نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) أي:سورها.
قال الإمام أحمد:حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لَهيعة، حدثنا دَرَّاج، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لسُرَادِق النار أربعة جُدُر، كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة » .
وأخرجه الترمذي في « صفة النار » وابن جرير في تفسيره، من حديث دراج أبي السَّمح به
[ وقال ابن جريج:قال ابن عباس: ( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) قال:حائط من نار ]
وقال ابن جرير:حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا حدثنا أبو عاصم، عن عبد الله بن أمية، حدثني محمد بن حيي بن يعلى، عن صفوان بن يعلى، عن يعلى بن أمية قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البحر هو جهنم » قال:فقيل له: [ كيف ذلك؟ ] فتلا هذه الآية - أو:قرأ هذه الآية- : ( نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) ثم قال: « والله لا أدخلها أبدًا أو:ما دمت حيًا - ولا تصيبني منها قطرة » .
وقوله: ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) قال ابن عباس: « المهل » :ماء غليظ مثل دردي الزيت.
وقال مجاهد:هو كالدم والقيح. وقال عكرمة:هو الشيء الذي انتهى حَرّه:وقال آخرون:هو كل شيء أذيب.
وقال قتادة:أذاب ابنُ مسعود شيئًا من الذهب في أخدود، فلما انماع وأزبد قال:هذا أشبه شيء بالمهل.
وقال الضحاك:ماء جهنم أسود، وهي سوداء وأهلها سود.
وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها، فهو أسود منتن غليظ حار؛ ولهذا قال: (يَشْوِي الْوُجُوهَ ) أي:من حره، إذا أراد الكافر أن يشربه وقَرّبه من وجهه، شواه حتى يسقط جلد وجهه فيه، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سُرادِق النار عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ماء كالمهل » . قال كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه « وهكذا رواه الترمذي في » صفة النار « من جامعه، من حديث رِشْدِين بن سعد عن عمرو بن الحارث، عن دراج، به ثم قال:لا نعرفه إلا من حديث » رشدين « ، وقد تكلم فيه من قبل حفظه،، هكذا قال، وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب، عن ابن لَهِيعة، عن دَرّاج، والله أعلم .»
وقال عبد الله بن المبارك، وبَقِيَّة بن الوليد، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن بُسْر، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ [ إبراهيم:16، 17 ] قال: « يقرب إليه فيَتَكرّهه، فإذا قرب منه شَوَى وجهَه ووقعت فروةُ رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه، يقول الله تعالى: ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ ) . »
وقال سعيد بن جبير:إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم، فلو أن مارًّا مرً بهم يعرفهم، لعرف جلود وجوههم فيها. ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون. فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات [ الذميمة ] القبيحة: ( بِئْسَ الشَّرَابُ ) أي:بئس هذا الشراب كما قال في الآية الأخرى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [ محمد:15 ] وقال تعالى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [ الغاشية:5 ] أي:حارة، كما قال: وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [ الرحمن:44 ]
( وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) [ أي:وساءت النار ] منـزلا ومَقِيلا ومجتمعًا وموضعًا للارتفاق كما قال في الآية الأخرى: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [ الفرقان:66 ]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا ( 30 ) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ( 31 )
لما ذكر تعالى حال الأشقياء، ثنى بذكر السعداء، الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة، فلهم ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) والعدن:الإقامة.
( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ ) أي:من تحت غرفهم ومنازلهم، قال [ لهم ] فرعون: وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [ الزخرف:51 ] .
( يُحَلَّوْنَ ) أي:من الحلية ( فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) وقال في المكان الآخر: وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [ الحج:23 ] وفصله هاهنا فقال: ( وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) فالسندس:لباس رقاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها، وأما الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق.
وقوله: ( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ ) الاتكاء قيل:الاضطجاع وقيل التربع في الجلوس. وهو أشبه بالمراد هاهنا ومنه الحديث [ في ] الصحيح: « أما أنا فلا آكل متكئًا » فيه القولان.
والأرائك:جمع أريكة، وهي السرير تحت الحَجَلة، والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالباشخاناه، والله أعلم.
قال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَرُ، عن قتادة: ( عَلَى الأرَائِكِ ) قال:هي الحجال. قال معمر:وقال غيره:السّرُر في الحجال
وقوله: ( نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) [ أي:نعمت الجنة ثوابًا على أعمالهم ( وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) أي:حسنت منـزلا ومقيلا ومقامًا، كما قال في النار: بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [ الكهف:29 ] ، وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [ الفرقان:66 ] ثم ذكر صفات المؤمنين فقال:أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [ الفرقان:75، 76 ] .
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ( 32 ) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ( 33 ) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ( 34 )
يقول الله تعالى بعد ذكر المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم، فضرب لهم مثلا برجلين، جعل الله ( لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ ) أي:بستانين من أعناب، محفوفتين بالنخل المحدقة في جنباتهما، وفي خلالهما الزروع، وكل من الأشجار والزروع مثمر مُقبلٌ في غاية الجود؛ ولهذا قال: ( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ) أي:خرجت ثمرها ( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ) أي:ولم تنقص منه شيئًا ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) أي:والأنهار تتخرق فيهما هاهنا وهاهنا.
( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ) قيل:المراد به:المال. رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وقيل:الثمار وهو أظهر هاهنا، ويؤيده القراءة الأخرى: « وكان له ثُمْر » بضم الثاء وتسكين الميم، فيكون جمع ثَمَرَة، كَخَشَبَة وخُشب، وقرأ آخرون: ( ثَمَرٌ ) بفتح الثاء والميم.
فقال - أي صاحب هاتين [ الجنتين ] - ( لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) أي:يجادله ويخاصمه، يفتخر عليه ويترأس: ( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) أي:أكثر خدمًا وحشمًا وولدًا.
قال قتادة:تلك - والله- أمنية الفاجر:كثرة المال وعزة النفر.

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ( 35 ) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ( 36 )
وقوله: ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) أي:بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد ( قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ) وذلك اغترار منه، لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها، ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف وذلك لقلة عقله، وضعف يقينه بالله، وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها، وكفره بالآخرة ؛ ولهذا قال: ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ) أي:كائنة (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ) أي:ولئن كان معاد ورجعة وَمَرَدٌّ إلى الله، ليكونَنّ لي هناك أحسن من هذا لأني مُحظى عند ربي، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [ فصلت:50 ] ، وقال أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا [ مريم:77 ] أي:في الدار الآخرة، تألى على الله، عز وجل، وكان سبب نـزولها في العاص بن وائل، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى، وبه الثقة.
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا ( 37 ) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38 ) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا ( 39 ) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ( 40 ) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ( 41 )
يقول تعالى مخبرًا عما أجابه صاحبه المؤمن، واعظًا له وزاجرًا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار: ( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا ) ؟ وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه، الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، كما قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [ البقرة:28 ] أي:كيف تجحَدُون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه، فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدومًا ثم وجد، وليس وجوده من نفسه ولا مستندًا إلى شيء من المخلوقات؛ لأنه بمثابته فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله، لا إله إلا هو، خالق كل شيء؛ ولذا قال: ( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ) أي:أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف لله بالربوبية والوحدانية ( وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ) أي:بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.
ثم قال: ( وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا ) هذا تحضيض وحث على ذلك، أي:هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال و الولد ما لم يعطه غيرك، وقلت: ( مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ ) ؛ ولهذا قال بعض السلف:من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده أو ماله، فليقل: ( مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ ) وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة. وقد روي فيه حديث مرفوع أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده:
حدثنا جَرَّاح بن مَخْلَد، حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عيسى بن عَوْن، حدثنا عبد الملك بن زُرَارَة، عن أنس، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد، فيقول: ( مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ ) فيرى فيه آفة دون الموت » . وكان يتأول هذه الآية: ( وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ ) .
قال الحافظ أبو الفتح الأزدي:عيسى بن عون، عن عبد الملك بن زرارة، عن أنس:لا يصح حديثه.
وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة وحجاج، حدثني شعبة، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبيد مولى أبي رُهْم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ألا أدلك على كنـز من كنوز الجنة؟ لا قوة إلا بالله » . تفرد به أحمد
وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: « ألا أدلك على كنـز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله »
وقال الإمام أحمد:حدثنا بكر بن عيسى، حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي بَلَج، عن عَمْرو بن ميمون قال:قال أبو هريرة:قال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: « يا أبا هريرة، أدلك على كنـز من كنوز الجنة تحت العرش؟ » . قال:قلت:نعم، فداك أبي وأمي. قال: « أن تقول لا قوة إلا بالله » قال أبو بَلْج:وأحسب أنه قال: « فإن الله يقول:أسلم عبدي واستسلم » . قال:فقلت لعمرو - قال أبو بَلْج:قال عَمْرو:قلت لأبي هريرة:لا حول ولا قوة إلا بالله؟ فقال:لا إنها في سورة الكهف: ( وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ )
وقوله: ( فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ ) أي:في الدار الآخرة ( وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا ) أي:على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى ( حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ) قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، ومالك عن الزهري:أي عذابًا من السماء.
والظاهر أنه مطر عظيم مزعج، يقلع زرعها وأشجارها؛ ولهذا قال: ( فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ) أي:بلقعًا ترابًا أملس، لا يثبت فيه قَدم.
وقال ابن عباس:كالجُرز الذي لا ينبت شيئًا.
وقوله: ( أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا ) أي:غائرًا في الأرض، وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض، فالغائر يطلب أسفلها كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [ الملك:30 ] أي:جار وسائج. وقال هاهنا: ( أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ) والغور:مصدر بمعنى غائر، وهو أبلغ منه، كما قال الشاعر
تَظَلّ جيّادُهُ نَوْحًا عَلَيه تُقَلّدُهُ أعنَّتَها صُفُوفا
بمعنى نائحات عليه.
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ( 42 ) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ( 43 ) هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ( 44 )
يقول تعالى: ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) بأمواله، أو بثماره على القول الآخر. والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر، مما خَوَّفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته، التي اغتر بها وألهته عن الله، عز وجل ( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا ) وقال قتادة:يُصفّق كفيه متأسفًا متلهفًا على الأموال التي أذهبها عليه ( وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ ) أي:عشيرة أو ولد، كما افتخر بهم واستعز ( يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ) اختلف القراء هاهنا، فمنهم من يقف على قوله: (وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ ) أي:في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله، فلا منقذ منه. ويبتدئ [ بقوله ] ( الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ) ومنهم من يقف على: ( وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ) ويبتدئ بقوله: ( هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ) .
ثم اختلفوا في قراءة ( الْوَلايَةُ ) فمنهم من فتح الواو، فيكون المعنى:هنالك الموالاة لله، أي:هنالك كل أحد من مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب، كقوله: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [ غافر:84] وكقوله إخبارًا عن فرعون: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [ يونس:90، 91 ]
ومنهم من كسر الواو من ( الْوَلايَةُ ) أي:هنالك الحكم لله الحق.
ثم منهم من رفع ( الْحَقِّ ) على أنه نعت للولاية، كقوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [الفرقان:26 ]
ومنهم من خفض القاف، على أنه نعت لله عز وجل، كقوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62 ] ؛ ولهذا قال تعالى: ( هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا ) أي:جزاء ( وَخَيْرٌ عُقْبًا ) أي:الأعمال التي تكون لله، عز وجل، ثوابها خير، وعاقبتها حميدة رشيدة، كلها خير.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ( 45 )
يقول تعالى: ( وَاضْرِبْ ) يا محمد للناس ( مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) في زوالها وفنائها وانقضائها ( كَمَاءٍ أَنـزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ ) أي:ما فيها من الحَبّ، فشب وحسن، وعلاه الزهر والنور والنضرة ثم بعد هذا كله ( فَأَصْبَحَ هَشِيمًا ) يابسا ( تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ) أي:تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ) أي:هو قادر على هذه الحال، وهذه الحال وكثيرًا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما في سورة يونس: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ الآية [ يونس:24 ] ، وقال في سورة الزمر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ [ الزمر:21 ] ، وقال في سورة الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ [ الحديد:20 ] .
وفي الحديث الصحيح: « الدنيا حلوة خضرة »

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا ( 46 ) .
وقوله: ( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) كقوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [ آل عمران:14 ] ، وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [ التغابن:15 ] أي:الإقبال عليه والتفرغ لعبادته، خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم، والشفقة المفرطة عليهم؛ ولهذا قال: ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا ) قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف: « الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ » الصلوات الخمس.
وقال عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جُبَير، عن ابن عباس: « الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ » سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وهكذا سُئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، عن: « الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ » ما هي؟ فقال:هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رواه الإمام أحمد:
حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، حدثنا حَيْوَة، أنبأنا أبو عقيل، أنه سمع الحارث مولى عثمان، رضي الله عنه، يقول:جلس عثمان يومًا وجلسنا معه، فجاءه المؤذن، فدعا بماء في إناء، أظنه أنه سيكون فيه مُد، فتوضأ ثم قال:رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا، ثم قال: « من توضأ وضوئي هذا، ثم قام فصلى صلاة الظهر، غُفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين الظهر، ثم صلى المغرب غُفر له ما بينها وبين العصر، ثم صلى العشاء غُفر له ما بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح، غُفر له ما بينها وبين صلاة العشاء وهي الحسنات يذهبن السيئات » قالوا:هذه الحسنات فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ قال:هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله تفرد به .
وروى مالك، عن عمارة بن عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب قال: « الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ » سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال محمد بن عَجْلان، عن عمارة قال:سألني سعيد بن المسيب عن « الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ » فقلت:الصلاة والصيام. قال لم تصب. فقلت:الزكاة والحج. فقال:لم تصب، ولكنهن الكلمات الخمس:لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال ابن جريج:أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن نافع عن سَرْجس، أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن: ( الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال:لا إله إلا الله، والله أكبر، [ وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال ابن جريج:وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك.
وقال مجاهد: ( الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ] .
وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمر، عن الحسن وقتادة في قوله: « الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ » قال:لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، هُنّ الباقيات الصالحات.
قال ابن جرير:وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار، عن أبي نصر التمار، عن عبد العزيز بن مسلم، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المَقْبُرِي، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، منَ الباقيات الصالحات » .
قال:وحدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث أن درّاجًا أبا السمح حَدّثه، عن ابن الهيثم، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « استكثروا من الباقيات الصالحات » . قيل:وما هي يا رسول الله؟ قال: « الملة » . قيل:وما هي يا رسول الله؟ قال: « التكبير، والتهليل، والتسبيح، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله » .
وهكذا رواه أحمد، من حديث دراج، به .
وبه قال ابن وهب:أخبرني أبو صَخْر أن عبد الله بن عبد الرحمن، مولى سالم بن عبد الله حَدّثه قال:أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي، فقال:قل له:القني عند زاوية القبر فإن لي إليك حاجة. قال:فالتقيا، فسلم أحدهما على الآخر، ثم قال سالم:ما تعد الباقيات الصالحات؟ فقال:لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال له سالم:متى جعلت فيها « لا حول ولا قوة إلا بالله؟ » فقال:ما زلت أجعلها. قال:فراجعه مرتين أو ثلاثًا، فلم ينـزع، قال فأثبت قال سالم:أجل فأثبت فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يقول: « عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليه السلام، فقال:يا جبريل من هذا معك؟ فقال:محمد فرحب بي وسَهَّل، ثم قال:مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة، فإن تربتها طيّبة وأرضها واسعة. فقلت:وما غراس الجنة؟ قال:لا حول ولا قوة إلا بالله »
وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن يزيد، عن العوام، حدثني رجل من الأنصار، من آل النعمان بن بشير، قال:خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء، فرفع بصره إلى السماء ثم خفض، حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء، ثم قال: « أما إنه سيكون بعدي أمراء، يكذبون ويظلمون، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم، فليس مني ولا أنا منه، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم فهو مني وأنا منه. ألا وإن » سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر هُنّ الباقيات الصالحات « »
وقال الإمام أحمد:حدثنا عفان، حدثنا أبان، حدثنا يحيى بن كثير، عن زيد، عن أبي سلام [ عن ] مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ] قال: « بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان:لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده » . وقال: « بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقنًا بهن، دخل الجنة:يؤمن بالله، واليوم الآخر، وبالجنة وبالنار، وبالبعث بعد الموت، وبالحساب »
وقال الإمام أحمد:حدثنا رَوْح، حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال:كان شداد بن أوس رضي الله عنه، [ في سفر ] فنـزل منـزلا فقال لغلامه: « ائتنا بالشَّفرة نعبث بها » . فأنكرت عليه، فقال:ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه. فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا كنـز الناس الذهب والفضة فاكنـزوا هؤلاء الكلمات:اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب »
ثم رواه أيضا النسائي من وجه آخر عن شداد، بنحوه
وقال الطبراني:حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا محمد بن سعد العوفي، حدثني أبي، حدثنا عمر بن الحسين، عن يونس بن نفيع الجدلي، عن سعد بن جنادة، رضي الله عنه، قال:كنت في أول من أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف، فخرجت من أهلى من السراة غدوة، فأتيت منى عند العصر، فتصاعدت في الجبل ثم هبطت، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، وعلمني: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) و ( إِذَا زُلْزِلَتِ ) وعلمني هؤلاء الكلمات:سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقال: « هن الباقيات الصالحات » . وبهذا الإسناد: « من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه، ثم قال:سبحان الله مائة مرة، والحمد لله مائة مرة، والله أكبر مائة مرة، ولا إله إلا الله مائة مرة، غفرت ذنوبه إلا الدماء فإنها لا تبطل »
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال:هي ذكر الله، قول:لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله، والصيام، والصلاة، والحج، والصدقة، والعتق، والجهاد، والصلة، وجميع أعمال الحسنات. وهن الباقيات الصالحات، التي تبقى لأهلها في الجنة، ما دامت السموات والأرض.
وقال العوفي، عن ابن عباس:هُنّ الكلام الطيب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:هي الأعمال الصالحة كلها. واختاره ابن جرير، رحمه الله.
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ( 47 ) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ( 48 ) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( 49 ) .
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظام، كما قال تعالى:يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور:9، 10 ] أي:تذهب من أماكنها وتزول، كما قال تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [ النمل:88 ] ، وقال تعالى: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [ القارعة:5 ] وقال:وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [ طه:105- 107 ] يقول تعالى:إنه تذهب الجبال، وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض قَاعًا صَفْصَفًا أي:سطحًا مستويًا لا عوج فيه وَلا أَمْتًا أي:لا وادي ولا جَبَل؛ ولهذا قال تعالى: ( وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً ) [ أي:بادية ظاهرة، ليس فيها مَعْلَم لأحد ولا مكان يواري أحدًا، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية.
قال مجاهد، وقتادة: ( وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً ) ] لا خَمَرَ فيها ولا غَيَابة. قال قتادة:لا بناءَ ولا شَجَر.
وقوله: ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) أي:وجمعناهم، الأولين منهم والآخرين، فلم نترك منهم أحدًا، لا صغيرًا ولا كبيرًا، كما قال:قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [ الواقعة:49، 50 ] ، وقال: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [ هود:103 ] ،
وقوله: ( وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ) يحتمل أن يكون المراد:أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفًا واحدًا، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [ النبأ:38 ] ويحتمل أنهم يقومون صفوفًا صفوفا، كما قال: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [ الفجر:22 ]
وقوله: ( لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) هذا تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد؛ ولهذا قال مخاطبا لهم: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ) أي:ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أن هذا كائن.
وقوله: ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ ) أي:كتاب الأعمال، الذي فيه الجليل والحقير، والفتيل والقطمير، والصغير والكبير ( فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) أي:من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة، ( وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا ) أي:يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا ( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا ) أي:لا يترك ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا ولا عملا وإن صغر ( إِلا أَحْصَاهَا ) أي:ضبطها، وحفظها.
وروى الطبراني، بإسناده المتقدم في الآية قبلها، إلى سعد ابن جنادة قال:لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حُنَيْن، نـزلنا قفرًا من الأرض، ليس فيه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « اجمعوا، من وجد عُودًا فليأت به، ومن وجد حطبًا أو شيئًا فليأت به. قال:فما كان إلا ساعة حتى جعلناه رُكامًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: » أترون هذا؟ فكذلك تُجْمَع الذنوب على الرجل منكم كما جَمَعْتُم هذا. فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة، فإنها مُحْصَاة عليه « »
وقوله: ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ) أي:من خير أو شر كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [ آل عمران:30 ] ، وقال تعالى: يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [ القيامة:13 ] وقال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [ الطارق:9 ] أي:تظهر المخبآت والضمائر.
قال الإمام أحمد:حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لكل غادر لواء يومَ القيامة [ يعرف به » .
أخرجاه في الصحيحين، وفي لفظ: « يُرْفَع لكل غادر لواء يومَ القيامة ] عند استه بقدر غَدْرته، يقال:هذه غَدْرَة فلان بن فلان »
وقوله: ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) أي:فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعًا، ولا يظلم أحدا من خلقه، بل يعفر ويصفح ويرحم ويعذب من يشاء، بقدرته وحكمته وعدله، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي، [ ثم ينجي أصحاب المعاصي ] ويُخلَّد فيها الكافرون وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40 ] وقال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [ الأنبياء:47 ] والآيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد، أخبرنا همام بن يحيى، عن القاسم بن عبد الواحد المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول:بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرًا ثم شددت عليه رَحْلى، فسرت عليه شهرًا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس فقلت للبواب:قل له:جابر على الباب. فقال:ابن عبد الله؟ فقلت:نعم. فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت:حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسَمَعه فقال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يحشُر الله، عز وجل الناس يوم القيامة - أو قال:العبادَ- عُرَاةَ غُرْلا بُهْمًا » قلت:وما بهمًا؟ قال: « ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قَربَ:أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله عند رجل من أهل النار حق، حتى أقصه منه حتى اللطمة » . قال:قلنا:كيف، وإنما نأتي الله، عز وجل، حفاة عُراة غُرْلا بُهْمًا؟ قال: بالحسنات والسيئات « .»
وعن شعبة، عن العوام بن مُزَاحم، عن أبي عثمان، عن عثمان بن عفان، رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الجَمَّاء لتقتص من القرناء يوم القيامة » رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر، وقد ذكرناها عند قوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا [ الأنبياء:47 ] وعند قوله تعالى: إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [ الأنعام:38 ]
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا ( 50 )
يقول تعالى منبهًا بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم، ومقرعًا لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه، الذي أنشأه وابتداه، وبألطاف رزقه وغذاه، ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله، فقال تعالى: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ ) أي:لجميع الملائكة، كما تقدم تقريره في أول سورة « البقرة » .
( اسْجُدُوا لآدَمَ ) أي:سجود تشريف وتكريم وتعظيم، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ الحجر:28، 29 ]
وقوله ( فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) أي:خانه أصله؛ فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: « خُلِقت الملائكة من نور، وخُلق إبليس من مارج من نار، خُلق آدم مما وصف لكم » . فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه، وخانه الطبع عند الحاجة، وذلك أنه كان قد تَوَسَّم بأفعال الملائكة وتشبه بهم، وتعبد وتنسك، فلهذا دخل في خطابهم، وعصى بالمخالفة .
ونبه تعالى هاهنا على أنه ( مِنَ الْجِنِّ ) أي:إنه خُلِق من نار، كما قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ الأعراف:12، وص:76 ]
قال الحسن البصري:ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قَط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم، عليه السلام، أصل البشر. رواه ابن جرير بإسناد صحيح [ عنه ] .
وقال الضحاك، عن ابن عباس:كان إبليس من حي من أحياء الملائكة، يقال لهم:الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة - قال:وكان اسمه الحارث، وكان خازنًا من خزان الجنة، وخُلقت الملائكة من نور غير هذا الحي- قال:وخلقت الجن الذين ذُكروا في القرآن من مارج من نار. وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت.
وقال الضحاك أيضًا، عن ابن عباس:كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطان [ السماء] الدنيا وسلطان الأرض، وكان مما سولت له نفسه، من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفًا على أهل السماء، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله. فاستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لآدم « فاستكبر، وكان من الكافرين. قال ابن عباس:وقوله: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) أي:من خزان [ الجنان، كما يقال للرجل:مكي، ومدني، وبصري، وكوفي. وقال ابن جريج، عن ابن عباس، نحو ذلك.»
وقال سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال:هو من خزان ] الجنة، وكان يدبر أمر السماء الدنيا، رواه ابن جرير من حديث الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، به.
وقال سعيد بن المسيب:كان رئيس ملائكة سماء الدنيا.
وقال ابن إسحاق، عن خَلاد بن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس قال:كان إبليس - قبل أن يركب المعصية- من الملائكة، اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض. وكان من أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا. فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جنا.
وقال ابن جُرَيْج، عن صالح مولى التَّوْأمة وشريك بن أبي نَمِر، أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس قال:إن من الملائكة قبيلة من الجن، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض. فعصى، فسخط الله عليه، فمسخه شيطانًا رجيمًا - لعنه الله- ممسوخًا، قال:وإذا كانت خطيئة الرجل في كِبْر فلا تَرْجُه، وإذا كانت في معصية فارجه.
وعن سعيد بن جُبَيْر أنه قال:كان من الجنانين، الذين يعملون في الجنة.
وقد رُوي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها. ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا، وفي القرآن غُنْيَةٌ عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين يَنْفُون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين، كما لهذه [ الأمة من ] الأئمة والعلماء، والسادة الأتقياء والأبرار والنجباء من الجهابذة النقاد، والحفاظ الجياد، الذين دونوا الحديث وحرروه، وبينوا صحيحه من حسنه، من ضعيفه، من منكره وموضوعه، ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال، كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي، خاتم الرسل، وسيد البشر [ عليه أفضل التحيات والصلوات والتسليمات ] ، أن ينسب إليه كذب، أو يحدث عنه بما ليس [ منه ] ، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل.
وقوله: ( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) أي:فخرج عن طاعة الله؛ فإن الفسق هو الخروج، يقال فَسَقت الرُّطَبة:إذا خرجت من أكمامها وفسقت الفأرة من جُحْرها:إذا خرجت منه للعيث والفساد.
ثم قال تعالى مقرعًا وموبخًا لمن اتبعه وأطاعه: ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ) أي:بدلا عني؛ ولهذا قال: ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا )
وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [ يس:59 - 62 ] .
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ( 51 )
يقول تعالى:هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم، لا يملكون شيئًا، ولا أشهدتهم خلقي للسموات والأرض، ولا كانوا إذ ذاك موجودين، يقول تعالى:أنا المستقل بخلق الأشياء كلها، ومدبرها ومقدرها وَحْدي، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير، ولا مشير ولا نظير، كما قال:قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الآية [ سبأ:22 ، 23 ] ؛ ولهذا قال: ( وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) قال مالك:أعوانًا.
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ( 52 ) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ( 53 )
يقول تعالى مخبرًا عما يُخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعًا لهم وتوبيخًا: ( نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) أي:في دار الدنيا، ادعوهم اليوم، ينقذونكم مما أنتم فيه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [ الأنعام:94 ] .
وقوله: ( فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) [ كما قال: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ] وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [ القصص:64 ] ، وقال وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [ الأحقاف:5، 6 ] ، قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [ مريم:81، 82 ]
وقوله: ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال ابن عباس، وقتادة وغير واحد:مَهْلكًا .
وقال قتادة:ذكر لنا أن عمرا البكالي حدث عن عبد الله بن عمرو قال:هو واد عميق، فُرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة.
وقال قتادة: ( مَوْبِقًا ) واديًا في جهنم.
وقال ابن جرير:حدثني محمد بن سِنان القزاز، حدثنا عبد الصمد، حدثنا يزيد بن درهم سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله تعالى: ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال:واد في جهنم، من قيح ودم.
وقال الحسن البصري: ( مَوْبِقًا ) :عداوة.
والظاهر من السياق هاهنا:أنه المهلك، ويجوز أن يكون واديًا في جهنم أو غيره، إلا أن الله تعالى أخبر أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير.
وأما إن جعل الضمير في قوله: ( بَيْنَهُمْ ) عائدًا إلى المؤمنين والكافرين، كما قال عبد الله بن عمرو:إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به، فهو كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [ الروم:14 ] ، وقال يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [ الروم:43 ] ، وقال تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [ يس:59 ] ، وقال تعالى:وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [ يونس:28 - 30 ] .
وقوله: ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ) أي:إنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا رأى المجرمون النار، تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها، ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه، عذاب ناجز.
( وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ) أي:ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها.
قال ابن جرير:حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرّاج عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الكافر يرى جهنم، فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة »
وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة، كما لم يعمل في الدنيا، وإن الكافر ليرى جهنم، ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة » .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا ( 54 ) .
يقول تعالى:ولقد بينا للناس في هذا القرآن، ووضحنا لهم الأمور، وفصلناها، كيلا يضلوا عن الحق، ويخرجوا عن طريق الهدى. ومع هذا البيان وهذا الفرقان، الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة.
قال الإمام أحمد:حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني علي بن الحسين، أن حسين بن علي أخبره، أن علي بن أبي طالب أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال: « ألا تصليان؟ »فقلت:يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بَعَثنا. فانصرف حين قلت ذلك، ولم يَرْجع إلي شيئًا، ثم سمعته وهو مولّ يضرب فخذه [ ويقول ] ( وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا ) أخرجاه في الصحيحين .
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا ( 55 ) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ( 56 ) .
يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات [ والآثار ] والدلالات الواضحات، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانًا، كما قال أولئك لنبيهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ الشعراء:187 ] ، وآخرون قالوا: ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [العنكبوت:29 ] ، وقالت قريش: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32 ] ، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ الحجر:6، 7 ] إلى غير ذلك [ من الآيات الدالة على ذلك ] .
ثم قال: ( إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ ) من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم، ( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا ) أي:يرونه عيانًا مواجهة [ومقابلة ] ، ثم قال: ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ) أي:قبل العذاب مبشرين من صدقهم وآمن بهم، ومنذرين مَنْ كذبهم وخالفهم.
ثم أخبر عن الكفار بأنهم يجادلون بالباطل ( لِيُدْحِضُوا بِهِ ) أي:ليضعفوا به ( الْحَقَّ ) الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم. ( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ) أي:اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب ( هُزُوًا ) أي:سخروا منهم في ذلك، وهو أشد التكذيب.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ( 57 ) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا ( 58 ) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ( 59 ) .
يقول تعالى:وأي عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها، أي:تناساها وأعرض عنها، ولم يصغ لها، ولا ألقى إليها بالا ( وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) أي:من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة. ( إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ) أي:قلوب هؤلاء ( أَكِنَّةً ) أي:أغطية وغشاوة، ( أَنْ يَفْقَهُوهُ ) أي:لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان، ( وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ) أي:صمم معنوي عن الرشاد، ( وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ) .
وقوله: ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) أي:ربك - يا محمد- غفور ذو رحمة واسعة، ( لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ) ، كَمَا قَالَ: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [ فاطر:45 ] ، وقال: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [ الرعد:6 ] . والآيات في هذا كثيرة.
ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر، وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد، ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد، وتضع كل ذات حمل حملها؛ ولهذا قال: ( بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا ) أي:ليس لهم عنه محيد ولا محيص ولا معدل.
وقوله: ( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ) أي:الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم ( وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ) أي:جعلناه إلى مدة معلومة ووقت [ معلوم ] معين، لا يزيد ولا ينقص، أي:وكذلك أنتم أيها المشركون، احذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فقد كذبتم أشرف رسول وأعظم نبي، ولستم بأعز علينا منهم، فخافوا عذابي ونذر.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ( 60 ) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ( 61 )
سبب قول موسى [ عليه السلام ] لفتاه - وهو يُشوع بن نُون- هذا الكلام:أنه ذكر له أن عبدًا من عباد الله بمجمع البحرين، عنده من العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الذهاب إليه، وقال لفتاه ذلك: ( لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) أي لا أزال سائرًا حتى أبلغ هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين، قال الفرزدق:
فَمَـا بَرحُـوا حَـتَّى تَهَـادَتْ نسَاؤهُمبِبَطْحَــاء ذي قـار عيـابَ اللطَـائم
قال قتادة وغير واحد:وهما بحر فارس مما يلي المشرق، وبحر الروم مما يلي المغرب.
وقال محمد بن كعب القُرظي:مجمع البحرين عند طنجة، يعني في أقصى بلاد المغرب، فالله أعلم.
وقوله: ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) أي:ولو أني أسير حقبًا من الزمان.
قال ابن جرير، رحمه الله:ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحُقُب في لغة قيس :سنة. ثم قد روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال:الحُقُب ثمانون سنة. وقال مجاهد:سبعون خريفًا. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) قال:دهرًا. وقال قتادة، وابن زيد، مثل ذلك.
وقوله: ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ) ، وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه، وقيل له:متى فقدتَ الحوت فهو ثَمّة. فسارا حتى بلغا مجمع البحرين؛ وهناك عين يقال لها: « عين الحياة » ، فناما هنالك، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء فاضطرب ، وكان في مكتل مع يوشع [ عليه السلام ] ، وطَفَر من المَكْتل إلى البحر، فاستيقظ يُوشع، عليه السلام، وسقط الحوت في البحر وجعل يسير فيه، والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده؛ ولهذا قال: ( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ) أي:مثل السَرَب في الأرض.
قال ابن جريح :قال ابن عباس:صار أثره كأنه حَجَر.
وقال العوفي، عن ابن عباس:جعل الحوت لا يمس شيئًا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة .
وقال محمد - [ هو ] بن إسحاق- عن الزهري، عن عُبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك: « ما انجاب ماء منذ كان الناس غيره ثبت مكان الحوت الذي فيه، فانجاب كالكُوّة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه » ، فقال: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ .
وقال قتادة:سَرب من البر ، حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فيه فجعل لا يسلك فيه طريقًا إلا جعل ماء جامدًا.

فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ( 62 ) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ( 63 ) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ( 64 ) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ( 65 )
وقوله: ( فَلَمَّا جَاوَزَا ) أي:المكان الذي نسيا الحوت فيه، ونُسب النسيان إليهما وإن كان يُوشَع هو الذي نسيه، كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [ الرحمن:22 ] ، وإنما يخرج من المالح في أحد القولين.
فلما ذهبا عن المكان الذي نسياه فيه مَرْحَلَةً ( قَالَ ) موسى ( لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا [ نَصَبًا ] ) أي:الذي جاوزا فيه المكان ( نَصَبًا ) يعني:تعبًا. قال: ( أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) قال قتادة:وقرأ ابن مسعود: [ وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان ] ، ولهذا قال: ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ ) أي:طريقه ( فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) ( قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ) أي:هذا الذي نطلب ( فَارْتَدَّا ) أي:رجعا ( عَلَى آثَارِهِمَا ) أي:طريقهما ( قَصَصًا ) أي:يقصان أثر مشيهما، ويقفوان أثرهما.
( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) وهذا هو الخضر، عليه السلام، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. بذلك قال البخاري:
حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، أخبرني سعيد بن جبير قال:قلت لابن عباس:إن نوفًا البِكَالِيّ يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. قال ابن عباس:كذب عَدُوّ الله، حدثنا أبي بن كعب، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فَسُئل:أي الناس أعلم؟ قال:أنا. فعتب الله عليه إذ لم يَرُدّ العلم إليه، فأوحى الله إليه:إنّ لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى:يا رب، وكيف لي به؟ قال:تأخذ معك حوتًا، تجعله بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم. فأخذ حوتا، فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يُوشع بن نون عليهما السلام، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه، فسقط في البحر واتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جِريةَ الماء، فصار عليه مثل الطاق. فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: ( آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ) ولم يجد موسى النَّصَب حتى جاوَزَا المكان الذي أمره الله به. قال له فتاه: ( أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) قال: » فكان للحوت سربًا ولموسى وفتاه عجبًا، فقال: ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) . قال: « فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مُسجّى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخَضِر:وَأنّى بأرضك السلام!. قال:أنا موسى. قال:موسى بني إسرائيل؟ قال:نعم، أتيتك لتعلمني مما عُلِّمت رشدا. قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه، لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله عَلَّمَكَه الله لا أعلمه. فقال موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا قال له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا . »
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوه ، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى:قد حملونا بغير نول، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئًا إمرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا قال:وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كانت الأولى من موسى نسيانًا » . قال:وجاء عصفور فنـزل على حرف السفينة فنقر في البحر نَقْرة، [ أو نقرتين ] فقال له الخضر:ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه [ بيده ] فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ؟! قال: « وهذه أشد من الأولى » ، قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ قال:مائل. فقال الخضر بيده: فَأَقَامَهُ ، فقال موسى:قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما » .
قال سعيد بن جبير:كان ابن عباس يقرأ: « وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا » وكان يقرأ: « وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين » .
ثم رواه البخاري عن قتيبة، عن سفيان بن عُيينة... فذكر نحوه ، وفيه: « فخرج موسى ومعه فتاه يُوشع بن نون، ومعهما الحوت حتى انتهيا إلى الصخرة، فنـزلا عندها - قال:فوضع موسى رأسه فنام- قال سفيان:وفي حديث غير عمرو قال:وفي أصل الصخرة عين يقال لها:الحياة، لا يصيب من مائها شيء إلا حيي:فأصاب الحوت من ماء تلك العين، قال، فتحرك وانسل من المكتل، فدخل البحر، فلما استيقظ قال موسى لفتاه: ( آتِنَا غَدَاءَنَا ) كذا قال:وساق الحديث. ووقع عصفور على حرف السفينة، فغمس منقاره في البحر، فقال الخضر لموسى:ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدارُ ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمامه بنحوه » .
وقال البخاري أيضًا:حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف، أن ابن جُرَيج أخبرهم قال:أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير - يزيد أحدهما على صاحبه- وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال:إنا لعند ابن عباس في بيته، إذ قال:سلوني. فقلت:أي أبا عباس، جعلني الله فداك، بالكوفة رجل قاص، يقال له:نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل - أما عمرو فقال لي:قال :كذب عدو الله! وأما يعلى فقال لي:قال ابن عباس:حدثني أبي بن كعب قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« موسى رسول الله، ذكَّر الناس يومًا، حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب، ولى فأدركه رجل فقال:أي رسول الله، هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال:لا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل:بلى قال:أي رب، وأين؟ قال:بمجمع البحرين. قال:أي رب، اجعل لي علمًا أعلم ذلك به » . قال لي عمرو:قال:حيث يفارقك الحوت، وقال لي يعلى:خذ حوتًا ميتًا حيث ينفخ فيه الروح. فأخذ حوتًا فجعله في مكتل، فقال لفتاه:لا أكلفك إلا أن تخبرني حيث يفارقك الحوت، قال ما كلفت كبيرًا. فذلك قوله: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ) يوشع بن نون، ليست عند سعيد بن جبير، قال: « فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ تَضَرَّب الحوت وموسى نائم فقال فتاه:لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرب الحوت حتى دخل البحر، فأمسك الله عنه جَرْيَة الماء حتى كأن أثره في حجر » . [قال:فقال لي عمرو:هكذا كأن أثره في حجر ] ، وحلق بين إبهاميه والتي تليهما: ( لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ) قال: « وقد قطع الله عنك النصب » ليست هذه عند سعيد - أخبره، فرجعا فوجدا خَضرًا. قال:قال عثمان بن أبي سليمان:على طِنْفِسَة خضراء على كبِد البحر. قال سعيد بن جبير:مُسَجى بثوب، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال:هل بأرض من سلام؟ من أنت؟ قال أنا موسى. قال:موسى بني إسرائيل؟ قال:نعم. قال:فما شأنك؟ قال:جئتك لتعلمني مما علمت رشدًا. قال:يكفيك التوراة بيدك، وأن الوحي يأتيك!. يا موسى، إن لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه. فأخذ طائر بمنقاره من البحر [ فقال:والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر ] ، حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارًا تحمل أهل هذا الساحل إلى هذا الساحل الآخر عرفوه، فقالوا:عبد الله الصالح؟. قال فقلنا لسعيد:خضر؟ قال:نعم. لا نحمله بأجر. فخرقها، وَوَتَدَ فيها وتدًا. قال موسى: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا . قال مجاهد:منكرًا. قال: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا كانت الأولى نسيانًا، والوسطى شرطًا، والثالثة عمدًا قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا . فَانْطَلَقَا . حتى لقيا غلامًا فقتله. قال يعلى:قال سعيد، وجد غلمانًا يلعبون، فأخذ غلامًا كافرًا ظريفًا فأضجعه، ثم ذبحه بالسكين، فقال: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً لم تعمل بالحنث . وابن عباس قرأها زَكِيَّةً - « زَاكِيَة » مُسْلمَة، كقولك :غلامًا زكيا فانطلقا، فوجدا جدارًا يريد أن ينقض فأقامه، قال [ سعيد ] بيده هكذا، ورفع يده فاستقام - قال يعلى:حسبت أن سعيدًا قال:فمسحه بيده فاستقام - قال: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قال سعيد:أجرًا نأكله وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ وكان أمامهم، قرأها ابن عباس:« أمامهم ملك » يزعمون عن غير سعيد أنه هُدَدُ بن بُدَدَ، والغلام المقتول اسمه - يزعمون- جَيسُور ( مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها، فإذا جاوزه أصلحوها فانتفعوا بها. ومنهم من يقول:سدوها بقارورة. ومنهم من يقول:بالقار. فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ وكان كافرًا، فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا . أن يحملهما حُبّه على أن يتابعاه على دينه فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً كقوله: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ، وَأَقْرَبَ رُحْمًا :هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر. وزعم غير سعيد بن جبير أنهما أبدلا جارية. وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد:إنها جارية .
وقال عبد الرزاق:أخبرنا مَعْمَر، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال:خطب موسى، عليه السلام، بني إسرائيل فقال:ما أحد أعلم بالله وبأمره مني. فَأمرَ أن يلقى هذا الرجل. فذكر نحو ما تقدم بزيادة ونقصان ، والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة ، عن سعيد بن جبير قال:جلست عند ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب فقال بعضهم:يا أبا العباس، إن نوفًا ابن امرأة كعب، يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العالم إنما هو موسى بن ميشا؟ قال سعيد:فقال ابن عباس:أنوفٌ يقول هذا؟ قال سعيد:فقلت له:نعم، أنا سمعت نوفًا يقول ذلك. قال:أنت سمعته يا سعيد؟ قال:قلت:نعم. قال:كذب نوف. ثم قال ابن عباس:حدثني أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال:أي رب، إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني، فدلني عليه. فقال له:نعم، في عبادي من هو أعلم منك. ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه. فخرج موسى ومعه فتاه، ومعه حوت مليح، قد قيل له:إذا حيي هذا الحوت في مكان، فصاحبك هنالك، وقد أدركت حاجتك. فخرج موسى ومعه فتاه، ومعه ذلك الحوت يحملانه، فسار حتى جهده السير، وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء، وذلك الماء ماء الحياة، من شرب منه خلد، ولا يقاربه شيء ميت إلا حيي. فلما نـزلا ومس الحوت الماء حيي فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا فانطلقا فلما جاوز مُنْقَلَبَه قال:موسى لفتاه: ( آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ) قال الفتى - وذكر- : ( أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) . »
قال ابن عباس:فظهر موسى على الصخرة حتى إذا انتهيا إليها، فإذا رجل متلفف في كساء له، فسلم موسى،فردّ عليه العالم ثم قال له:ما جاء بك إن كان لك في قومك لَشُغل؟. قال له موسى:جئتك لتعلمني مما علمت رشدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وكان رجلا يعلم علم الغيب قد عُلِّم ذلك - فقال موسى:بلى. قال: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ؟ أي:إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل، ولم تحط من علم الغيب بما أعلم. قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا وإن رأيتُ ما يخالفني، قال: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ [ وإن أنكرته ] حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا :فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرّضان الناس، يلتمسان من يحملهما، حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة، لم يمرّ بهما من السفن أحسن ولا أكمل ولا أوثق منها. فسألا أهلها أن يحملوهما، فحملوهما ، فلما اطمأنا فيها وَلجّجَت بهما مع أهلها، أخرج منقارًا له ومطرقة، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها. ثم أخذ لوحًا فطبقه عليها، ثم جلس عليها يرقعها، فقال:له موسى - ورأى أمرًا أفظع به- : أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ أي:بما تركت من عهدك، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا . ثم خرجا من السفينة فانطلقا، حتى أتيا أهل قرية، فإذا غلمان يلعبون خلفها، فيهم غلام ليس في الغلمان غلام أظرف منه ولا أثرى ولا أوضأ منه، فأخذه بيده، وأخذ حجرًا فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله، قال:فرأى موسى أمرًا فظيعًا لا صبر عليه، صبي صغير قتله لا ذنب له قال: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً أي:صغيرة بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا أي:قد أعْذرتَ في شأني. فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ، فهدمه ثم قعد يبنيه، فضجر موسى مما يراه يصنع من التكليف، وما ليس عليه صبر، قال: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا أي:قد استطعمناهم فلم يطعمونا، وضفناهم فلم يُضَيّفونا، ثم قعدت تعمل من غير صنيعة، ولو شئت لأعطيت عليه أجرًا في عمله؟. قال: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا - وفي قراءة أبيّ بن كعب: « كل سفينة صالحة » - وإنما عبتها لأرده عنها، فسلمت حين رأى العيب الذي صنعت بها. وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي:ما فعلته عن نفسي، ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا وكان ابن عباس يقول:ما كان الكنـز إلا علمًا .
وقال العوفي، عن ابن عباس قال:لما ظهر موسى وقومه على مصر، أنـزل قومه ، فلما استقرت بهم الدار، أنـزل الله:أن ذكرهم بأيام الله فخطب قومه، فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة، وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون، وذكرهم هلاك عدوهم، وما استخلفهم الله في الأرض، وقال:كلم الله نبيكم تكليمًا، واصطفاني لنفسه، وأنـزل عليّ محبة منه، وآتاكم الله من كل ما سألتموه؛ فنبيكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرؤون التوراة، فلم يترك نعمة أنعمها عليهم إلا وعرفهم إياها. فقال له رجل من بني إسرائيل:هم كذلك يا نبي الله، قد عرفنا الذي تقول، فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال:لا. فبعث الله جبرائيل إلى موسى، عليهما السلام ، فقال:إن الله [عز وجل ] يقول:وما يدريك أين أضع علمي؟ بلى . إن على شط البحر رجلا هو أعلم منك - قال ابن عباس:هو الخضر- فسأل موسى ربه أن يريه إياه، فأوحى إليه:أن ائت البحر، فإنك تجد على شط البحر حوتًا، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثم الزم شط البحر، فإذا نسيت الحوت وهلك منك، فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب. فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه، سأل فتاه عن الحوت، فقال له فتاه وهو غلامه: ( أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) لك، قال الفتى:لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سربًا فأعجب ذلك موسى، فرجع حتى أتى الصخرة، فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى، وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمس شيئًا من البحر إلا يبس، حتى يكون صخرة ، فجعل نبي الله يعجب من ذلك، حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخضر بها فسلم عليه، فقال الخضر:وعليك السلام، وأنى يكون السلام بهذه الأرض؟ ومن أنت؟ قال:أنا موسى. فقال الخضر:أصاحب بني إسرائيل؟ [ قال:نعم ] فرحب به وقال:ما جاء بك؟ قال جئتك عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا يقول:لا تطيق ذلك. قال موسى سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا قال:فانطلق به، وقال له:لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه، فذلك قوله: حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا .
وقال الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن ابن عباس:أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، فقال ابن عباس:هو خضر. فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال:إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لُقيه، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال:إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:« بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال:تعلم مكان رجل أعلم منك؟ قال:لا؛ فأوحى الله إلى موسى بلى عبدنا خضر. فسأل موسى السبيل إلى لُقيّه فجعل الله له الحوت آية وقيل له:إذا فَقَدت الحوت [ فهو ثمة ] فارجع، فإنك ستلقاه. فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر. فقال فتى موسى لموسى: ( أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ) قَالَ مُوسَى ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) فوجدا عبدنا خضرًا فكان من شأنهما ما قص في الله كتابه »
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ( 66 ) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ( 67 ) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ( 68 ) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ( 69 ) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ( 70 ) .
يخبر تعالى عن قيل موسى، عليه السلام لذلك [ الرجل ] العالم، وهو الخضر، الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى، كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر، ( قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ ) سؤال بتلطف ، لا على وجه الإلزام والإجبار. وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم. وقوله: ( أَتَّبِعُكَ ) أي:أصحبك وأرافقك، ( عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) أي:مما علمك الله شيئًا، أسترشد به في أمري، من علم نافع وعمل صالح.
فعندها ( قَالَ ) الخضر لموسى: ( إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) أي:أنت لا تقدر أن تصاحبني لما ترى [ منِّي ] من الأفعال التي تخالف شريعتك؛ لأني على علم من علم الله، ما علمكه الله، وأنت على علم من علم الله، ما علمنيه الله، فكل منا مكلف بأمور . من الله دون صاحبه، وأنت لا تقدر على صحبتي.
( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) فأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه، ولكنْ ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك.
قَالَ له موسى: ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ) أي:على ما أرى من أمورك، ( وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) أي:ولا أخالفك في شيء. فعند ذلك شارطه الخضر ( قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ) أي:ابتداءً ( حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) أي:حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني.
قال ابن جرير:حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه، عن ابن عباس قال:سأل موسى ربه، عز وجل، فقال :رب، أي عبادك أحب إليك؟ قال:الذي يذكرني ولا ينساني. قال فأي عبادك أقضى؟ قال:الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال أي رب، أي عبادك أعلم؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى. قال:أي رب هل في أرضك أحد أعلم مني؟ قال:نعم. قال:فمن هو؟ قال الخضر. قال:فأين أطلبه؟ قال على الساحل عند الصخرة، التي ينفلت عندها الحوت. قال:فخرج موسى يطلبه، حتى كان ما ذكر الله، وانتهى موسى إليه عند الصخرة، فسلم كل واحد منهما على صاحبه. فقال له موسى:إني أريد أن تصحبني قال إنك لن تطيق صحبتي. قال:بلى. قال:فإن صحبتني ( فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) قال:فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور ، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه. قال:وبعث الله الخطاف، فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى:كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ قال:ما أقل ما رزأ! قال:يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقَدْر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء. وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه، أو تكلم به، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر. وذكر تمام الحديث في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، وتفسيره له ذلك.
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ( 71 ) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ( 72 ) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ( 73 )
يقول تعالى مخبرًا عن موسى وصاحبه، وهو الخضر، أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا، واشترط عليه ألا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه، فركبا في السفينة. وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة، وأنهم عرفوا الخضر، فحملوهما بغير نول - يعني بغير أجرة- تكرمة للخضر. فلما استقلت بهم السفينة في البحر، ولججت أي:دخلت اللجة، قام الخضر فخرقها، واستخرج لوحًا من ألواحها ثم رقعها. فلم يملك موسى، عليه السلام، نفسه أن قال منكرًا عليه: ( أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ) . وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل، كما قال الشاعر لدُوا للْمَوت وابْنُوا للخَرَاب
( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) قال مجاهد:منكرًا. وقال قتادة عجبًا. فعندها قال له الخضر مذكرا بما تقدم من الشرط: ( أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) يعني وهذا الصنيع فعلته قصدًا، وهو من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر عليّ فيها، لأنك لم تحط بها خبرًا، ولها داخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت.
( قَالَ ) أي موسى: ( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ) أي:لا تضيق عليّ وتُشدد علىّ؛ ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « كانت الأولى من موسى نسيانًا » .
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ( 74 )
يقول تعالى: ( فَانْطَلَقَا ) أي:بعد ذلك، ( حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ ) وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى، وأنه عمد إليه من بينهم، وكان أحسنهم وأجملهم وأوضأهم فقتله، فروي أنه احتز رأسه، وقيل:رضخه بحجر. وفي رواية:اقتطفه بيده. والله أعلم.
فلما شاهد موسى، عليه السلام، هذا أنكره أشد من الأول، وبادر فقال: ( أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ) أي صغيرة لم تعمل الحنث ، ولا حملت إثمًا بعد، فقتلته؟! ( بِغَيْرِ نَفْسٍ ) أي:بغير مستند لقتله ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ) أي:ظاهر النكارة.

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ( 75 ) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ( 76 )
( قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) فأكد أيضًا في التذكار بالشرط الأول؛ فلهذا قال له موسى: ( إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا ) أي:إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة ( فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) أي:قد أعذرت إليّ مرة بعد مرة.
قال ابن جرير:حدثنا عبد الله بن زياد، حدثنا حجاج بن محمد، عن حمزة الزيات، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب قال:كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدًا فدعا له، بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: « رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ولكنه قال: ( إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) » [ مثقلة] .
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ( 77 ) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ( 78 ) .
يقول تعالى مخبرا عنهما:إنهما انطلقا بعد المرتين الأوليين ( حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ) روى ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة وفي الحديث: « حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما » أي:بخلاء ( فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل. والانقضاض هو:السقوط.
وقوله: ( فَأَقَامَهُ ) أي:فردّه إلى حالة الاستقامة وقد تقدم في الحديث أنه ردّه بيديه، ودعمه حتى رد ميله . وهذا خارق فعند ذلك قال موسى له ( لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) أي:لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانًا
( قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) [ أي:لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فهو فراق بيني وبينك] ، ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ) أي:بتفسير ( مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) .
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ( 79 ) .
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى، عليه السلام، وما كان أنكر ظاهره وقد أظهر الله الخضر، عليه السلام، على باطنة فقال إن:السفينة إنما خرقتها لأعيبها؛ [ لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة ( يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ ) صالحة، أي:جيدة ( غَصْبًا ) فأردت أن أعيبها ] لأرده عنها لعيبها ، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها. وقد قيل:إنهم أيتام.
و [ قد ] روى ابن جريج عن وهب بن سليمان، عن شعيب الجبائي؛ أن اسم ذلك الملك هُدَدَ بن بُدَدَ، وقد تقدم أيضًا في رواية البخاري، وهو مذكور في التوراة في ذرية « العيص بن إسحاق » وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوراة، والله أعلم
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ( 80 ) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ( 81 )
قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جَيْسُور. وفي الحديث عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرًا » . رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق، عن سعيد، عن ابن عباس، به؛ ولهذا قال: (فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) أي:يحملهما حبه على متابعته على الكفر.
قال قتادة:قد فرح به أبواه حين ولد،وحزنا عليه حين قتل،ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.
وصح في الحديث: « لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له » . وقال تعالى: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:216 ] .
وقوله [ تعالى ] فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) أي:ولدًا أزكى من هذا، وهما أرحم به منه، قاله ابن جريج.
وقال قتادة:أبر بوالديه.
وقد تقدم أنهما بدلا جارية. وقيل لما قتله الخضر كانت أمه حاملا بغلام مسلم. قاله ابن جريح
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ( 82 ) .
في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة؛ لأنه قال أولا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ [ الكهف:77 ] وقال هاهنا: ( فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ) كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [ محمد:13 ] ، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [ الزخرف:31 ] يعني:مكة والطائف.
ومعنى الآية:أن هذا الجدار إنما أصلحه لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنـز لهما.
قال عكرمة، وقتادة، وغير واحد:كان تحته مال مدفون لهما. وهذا ظاهر السياق من الآية، وهو اختيار ابن جرير، رحمه الله.
وقال العوفي عن ابن عباس:كان تحته كنـز علم. وكذا قال سعيد بن جبير، وقال مجاهد:صحف فيها علم، وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك، قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور:حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا بشر بن المنذر، حدثنا الحارث بن عبد الله الْيَحْصَبيّ عن عياش بن عباس القتباني عن ابن حُجَيرة ، عن أبي ذر رضي الله عنه، [ رفعه ] قال: « إن الكنـز الذي ذكر الله في كتابه:لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه:عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب ؟ وعجبت لمن ذكر النار لم ضَحِك ؟ وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله » .
بشر بن المنذر هذا يقال له:قاضي المصيصة. قال الحافظ أبو جعفر العقيلي:في حديثه وهم .
وقد روي في هذا آثار عن السلف، فقال ابن جرير في تفسيره:حدثني يعقوب، حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة حدثنا سلمة ، عن نعيم العنبري - وكان من جلساء الحسن- قال:سمعت الحسن - يعني البصري- يقول في قوله: ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال:لوح من ذهب مكتوب فيه:بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وحدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبد الله بن عياش عن عُمَر مولى غُفْرَة قال:إن الكنـز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف: ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال:كان لوحًا من ذهب مُصْمَت مكتوبا فيه:بسم الله الرحمن الرحيم، عجبٌ لمن عرف النار ثم ضحك! عجبٌ لمن أيقن بالقدر ثم نصب! عجب لمن أيقن بالموت ثم أمن! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وحدثني أحمد بن حازم الغفاري، حدثنا هَنَّادَة بنت مالك الشيبانية قالت:سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول:سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال:سطران ونصف لم يتم الثالث:عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب وعجبت للموقن بالحساب كيف يغفل؟ وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح؟ وقد قال تعالى: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [ الأنبياء:47 ] قالت:وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان نساجًا.
وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة، وورد به الحديث المتقدم وإن صح، لا ينافي قول عكرمة:أنه كان مالا لأنهم ذكروا أنه كان لوحًا من ذهب، وفيه مال جزيل، أكثر ما زادوا أنه كان مودعًا فيه علم ، وهو حكم ومواعظ، والله أعلم.
وقوله: ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس:حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاح، وتقدم أنه كان الأب السابع. [ فالله أعلم ]
وقوله: ( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنـزهُمَا ) :هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى؛ لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله؛ وقال في الغلام: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ وقال في السفينة: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ، فالله أعلم.
وقوله: ( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) أي:هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة، إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة، ووالدي الغلام، وولدي الرجل الصالح، ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) لكني أمرت به ووقفت عليه، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر، عليه السلام، مع ما تقدم من قوله: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا .
وقال آخرون:كان رسولا. وقيل بل كان ملكًا. نقله الماوردي في تفسيره.
وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيًا. بل كان وليًا. فالله أعلم.
وذكر ابن قتيبة في المعارف أن اسم الخضر بَلْيَا بن مَلْكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، عليه السلام
قالوا:وكان يكنى أبا العباس، ويلقب بالخضر، وكان من أبناء الملوك، ذكره النووي في تهذيب الأسماء، وحكى هو وغيره في كونه باقيًا إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولين، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه، وذكروا في ذلك حكايات وآثارًا عن السلف وغيرهم وجاء ذكره في بعض الأحاديث. ولا يصح شيء من ذلك، وأشهرها أحاديث التعزية وإسناده ضعيف.
ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك، واحتجوا بقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [ الأنبياء:34 ] وبقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: « اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض » ، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ولا حضر عنده، ولا قاتل معه. ولو كان حيا لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه؛ لأنه عليه السلام كان مبعوثًا إلى جميع الثقلين:الجنّ والإنس، وقد قال: « لو كان موسى وعيسى حَيَّيْن ما وسعهما إلا اتباعي » وأخبر قبل موته بقليل:أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تَطْرفُ، إلى غير ذلك من الدلائل.
قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ في الخَضر قال ] : « إنما سمي خضرًا ؛ لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تحته [ تهتز ] خضراء » .
ورواه أيضًا عن عبد الرزاق. وقد ثبت أيضًا في صحيح البخاري، عن همام، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنما سمي الخضِر؛ لأنه جلس على فَرْوَة، فإذا هي تهتز [ من خلفه ] خضراء »
والمراد بالفروة هاهنا الحشيش اليابس، وهو الهشيم من النبات، قاله عبد الرزاق. وقيل:المراد بذلك وجه الأرض.
وقوله: ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) أي:هذا تفسير ما ضقت به ذرعًا، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال: ( [ مَا لَمْ ] تَسْطِعْ ) وقبل ذلك كان الإشكال قويًا ثقيلا فقال: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فقابل الأثقل بالأثقل، والأخف بالأخف، كما قال تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وهو الصعود إلى أعلاه، وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف:97 ] ، وهو أشق من ذلك، فقابل كلا بما يناسبه لفظًا ومعنى والله أعلم.
فإن قيل:فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك؟
فالجواب:أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبع، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون، وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى، عليهما السلام. وهذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال:حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة ، حدثني ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن أبيه، عن عكرمة قال:قيل لابن عباس:لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث وقد كان معه؟ فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال:شرب الفتى من الماء [ فخلد، فأخذه ] العالم، فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر، فإنها تموج به إلى يوم القيامة؛ وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب
إسناد ضعيف، والحسن متروك، وأبوه غير معروف.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ( 83 )
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( وَيَسْأَلُونَكَ ) يا محمد ( عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) أي:عن خبره. وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا:سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا، وعن الروح، فنـزلت سورة الكهف.
وقد أورد ابن جرير هاهنا، والأموي في مغازيه، حديثا أسنده وهو ضعيف، عن عقبة بن عامر، أن نفرًا من اليهود جاؤوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاؤوا له ابتداء، فكان فيما أخبرهم به: « أنه كان شابا من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك في السماء، وذهب به إلى السد، ورأى أقوامًا وجوههم مثل وجوه الكلاب » . وفيه طول ونكارة، ورفعه لا يصح، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل. والعجب أن أبا زُرْعَة الرازي، مع جلالة قدره، ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة، وذلك غريب منه، وفيه من النكارة أنه من الروم، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني ابن فيليبس المقدوني، الذي تؤرخ به الروم، فأما الأول فقد ذكره الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل، عليه السلام، أول ما بناه وآمن به واتبعه، وكان معه الخضر، عليه السلام، وأما الثاني فهو، إسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف المشهور، والله أعلم. وهو الذي تؤرخ به من مملكته ملة الروم. وقد كان قبل المسيح، عليه السلام، بنحو من ثلثمائة سنة، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل، كما ذكره الأزرقي وغيره، وأنه طاف مع الخليل بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم، عليه السلام، وقرب إلى الله قربانًا، وقد ذكرنا طرفًا من أخباره في كتاب « البداية والنهاية » ، بما فيه كفاية ولله الحمد.
وقال وهب بن منبه:كان ملكًا، وإنما سمي ذا القرنين لأن؛ صفحتي رأسه كانتا من نحاس، قال:وقال بعض أهل الكتاب:لأنه ملك الروم وفارس. وقال بعضهم:كان في رأسه شبه القرنين، وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل قال:سئل علي، رضي الله عنه، عن ذي القرنين، فقال:كان عبدًا ناصحَ الله فناصَحَه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فسمي ذا القرنين.
وكذا رواه شعبة، عن القاسم بن أبي بَزَّة عن أبي الطفيل، سمع عليًا يقول ذلك.
ويقال:إنه إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ المشارق والمغارب، من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب.

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ( 84 ) .
وقوله ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ ) أي:أعطيناه ملكًا عظيمًا متمكنًا، فيه له من جميع ما يؤتى الملوك، من التمكين والجنود ، وآلات الحرب والحصارات؛ ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم، من العرب والعجم؛ ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها.
وقوله: ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) :قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والسدي، وقتادة، والضحاك، وغيرهم:يعني علمًا.
وقال قتادة أيضًا في قوله: ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) قال:منازل الأرض وأعلامها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) قال:تعليم الألسنة، كان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم.
وقال ابن لَهيعة:حدثني سالم بن غَيْلان، عن سعيد بن أبي هلال؛ أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار:أنت تقول:إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب:إن كنت قلت ذلك، فإن الله تعالى قال: ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) .
وهذا الذي أنكره معاوية، رضي الله عنه، على كعب الأحبار هو الصواب ، والحق مع معاوية في الإنكار؛ فإن معاوية كان يقول عن كعب: « إن كنا لنبلو عليه الكذب » يعني:فيما ينقله، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحيفته ، ولكن الشأن في صحيفته ، أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق ولا حاجة لنا مع خبر الله ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى شيء منها بالكلية، فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض. وتأويل كعب قول الله: ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحيفته من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق؛ فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك، ولا إلى الترقي في أسباب السموات. وقد قال الله في حق بلقيس: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [ النمل:23 ] أي:مما يؤتى مثلها من الملوك، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب، أي:الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرَّسَاتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك. قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببًا، والله أعلم.
وفي « المختارة » للحافظ الضياء المقدسي، من طريق قتيبة، عن أبي عوانة عن سماك بن حرب، عن حبيب بن حماز قال:كنت عند علي، رضي الله عنه، وسأله رجل عن ذي القرنين:كيف بلغ المشارق والمغارب؟ فقال سبحان الله سخر له السحاب، وقَدَّر له الأسباب، وبسط له اليد .
فَأَتْبَعَ سَبَبًا ( 85 ) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ( 86 ) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ( 87 ) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ( 88 ) .
قال ابن عباس: ( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) يعني:بالسبب المنـزل ] . وقال مجاهد: ( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) :منـزلا وطريقًا ما بين المشرق والمغرب.
وفي رواية عن مجاهد: ( سَبَبًا ) قال:طريقا في الأرض.
وقال قتادة:أي أتبع منازل الأرض ومعالمها .
وقال الضحاك: ( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) أي:المنازل .
وقال سعيد بن جبير في قوله: ( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) قال:علمًا. وهكذا قال عكرمة وعبيد بن يعلى، والسدي.
وقال مطر:معالم وآثار كانت قبل ذلك.
وقوله: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) أي:فسلك طريقًا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض. وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدّة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له. وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب، واختلاق زنادقتهم وكذبهم
وقوله: ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) أي:رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه .
والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من « الحمأة » وهو الطين، كما قال تعالى: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:28 ] أي:طين أملس . وقد تقدم بيانه.
وقال ابن جرير:حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب حدثني نافع بن أبي نعيم، سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول:كان ابن عباس يقول ( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) ثم فسرها:ذات حمأة. قال نافع:وسئل عنها كعب الأحبار فقال:أنتم أعلم بالقرآن مني، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء .
وكذا روى غير واحد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وغير واحد.
وقال أبو داود الطيالسي:حدثنا محمد بن دينار، عن سعد بن أوس، عن مِصْدَع، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه ( حَمِئَةٍ )
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: « وجدها تغرب في عين حامية » يعني:حارة. وكذا قال الحسن البصري.
وقال ابن جرير:والصواب أنهما قراءتان مشهورتان وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب .
قلت:ولا منافاة بين معنييهما، إذ قد تكون حارة لمجاورتها وَهْج الشمس عند غروبها، وملاقاتها الشعاع بلا حائل و ( حَمِئَةٍ ) في ماء وطين أسود، كما قال كعب الأحبار وغيره.
وقال ابن جرير:حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام، حدثني مولى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله قال:نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت، فقال: « في نار الله الحامية [ في نار الله الحامية ] ، لولا ما يزعها من أمر الله، لأحرقت ما على الأرض » .
قلت:ورواه الإمام أحمد، عن يزيد بن هارون . وفي صحة رفع هذا الحديث نظر، ولعله من كلام عبد الله بن عمرو، من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا حجاج بن حمزة، حدثنا محمد - يعني ابن بشر- حدثنا عمرو بن ميمون، أنبأنا ابن حاضر، أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف « تغرب في عين حامية » قال ابن عباس لمعاوية ما نقرؤها إلا ( حَمِئَةٍ) فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها:فقال عبد الله:كما قرأتها. قال ابن عباس:فقلت لمعاوية:في بيتي نـزل القرآن؟ فأرسل إلى كعب فقال له:أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ [ فقال له كعب:سل أهل العربية، فإنهم أعلم بها، وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة ] في ماء وطين. وأشار بيده إلى المغرب. قال ابن حاضر:لو أني عندكما أفدتك بكلام تزداد فيه بصيرة في حمئة. قال ابن عباس:وإذًا ما هو؟ قلت:فيما يؤثر من قول تُبَّع، فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه:
بَلَــغَ المشَـــارقَ والمغَـارِبَ يَبْتَغِـــي أسْــبَابَ أمْــرٍ مِــــنْ حَكِيمٍ مُرْشِد
فَـــرَأى مَغِيـــبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبها فِـي عَيْـنِ ذِي خُــلب وَثــأط حَرْمَدِ
قال ابن عباس:ما الخُلَب؟ قلت:الطين بكلامهم. [ يعنى بكلام حمير ] . قال:ما الثاط؟ قلت:الحمأة. قال:فما الحرْمَد؟ قلت:الأسود. قال:فدعا ابن عباس رجلا أو غلامًا فقال:اكتب ما يقول هذا الرجل.
وقال سعيد بن جبير:بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ: ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) فقال كعب:والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحدًا يقرؤها كما أنـزلت في التوراة غير ابن عباس، فإنا نجدها في التوراة:تغرب في مدرة سوداء.
وقال أبو يعلى الموصلي:حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا هشام بن يوسف قال:في تفسير ابن جريج ( وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ) قال:مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لولا أصوات أهلها لسمع الناس وُجُوب الشمس حين تجب.
وقوله: ( وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ) أي:أمة من الأمم، ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم.
وقوله: ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ) معنى هذا:أن الله تعالى مكنه منهم وحكمه فيهم، وأظفره بهم وخيره:إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ أو فدى . فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه
في قوله: ( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ) أي:من استمر على كفره وشركه بربه ( فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ) قال قتادة:بالقتل:وقال السدي:كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا. وقال وهب بن منبه:كان يسلط الظلمة، فتدخل أفوافهم وبيوتهم، وتغشاهم من جميع جهاتهم والله أعلم.
وقوله: ( ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ) أي:شديدًا بليغًا وجيعًا أليمًا. وفيه إثبات المعاد والجزاء.
وقوله: ( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ ) أي:تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ( فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ) أي:في الدار الآخرة عند الله، عز وجل، ( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ) قال مجاهد:معروفًا.
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ( 89 ) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ( 90 ) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ( 91 ) .
يقول:ثم سلك طريقًا فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها ، وكان كلما مرّ بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل، فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم، واستباح أموالهم، وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما يستعين به مع جيوشه على أهل الإقليم المتاخم لهم. وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفا وستمائة سنة يجوب الأرض طولها والعرض حتى بلغ المشارق والمغارب. ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال الله تعالى: ( وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ ) أي:أمة ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) أي:ليس لهم بناء يكنهم، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس.
قال سعيد بن جبير:كانوا حُمرًا قصارًا، مساكنهم الغيران، أكثر معيشتهم من السمك.
وقال أبو داود الطيالسي:حدثنا سهل بن أبي الصلت، سمعت الحسن وسئل عن قوله تعالى: ( لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال:إن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم. قال الحسن:هذا حديث سمرة .
وقال قتادة:ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئًا، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب، حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم.
وعن سلمة بن كُهَيْل أنه قال:ليس لهم أكنان، إذا طلعت الشمس طلعت عليهم، فلأحدهم أذنان يفترش إحداهما ويلبس الأخرى.
قال عبد الرزاق:أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال:هم الزنج .
وقال ابن جريج في قوله: ( وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال:لم يبنوا فيها بناء قط، ولم يبن عليهم فيها بناء قط، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابًا لهم حتى تزول الشمس، أو دخلوا البحر، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل، جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها:لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها. قالوا:لا نبرح حتى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا:هذه جيفُ جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا. قال:فذهبوا هاربين في الأرض.
وقوله: ( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) قال مجاهد، والسدي:علمًا، أي:نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه، لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض، فإنه تعالى: لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [ آل عمران:5 ]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ( 92 ) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا ( 93 ) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ( 94 ) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ( 95 ) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ( 96 )
يقول تعالى مخبرًا عن ذي القرنين: ( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) أي:ثم سلك طريقًا من مشارق الأرض. ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) وهما جبلان متناوحان بينهما ثُغْرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيهم فسادًا، ويهلكون الحرث والنسل، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم، عليه السلام، كما ثبت في الصحيحين: « إن الله تعالى يقول:يا آدم. فيقول:لبيك وسعديك. فيقول:ابعث بَعْثَ النار. فيقول:وما بَعْثُ النار؟ فيقول:من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة؟ فحينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، فيقال:إن فيكم أمّتين، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه:يأجوج ومأجوج » .
وقد حكى النووي ، رحمه الله، في شرح « مسلم » عن بعض الناس:أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب، فخلقوا من ذلك فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم، وليسوا من حواء. وهذا قول غريب جدًا، [ ثم ] لا دليل عليه لا من عقل ولا [من ] نقل، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب، لما عندهم من الأحاديث المفتعلة، والله أعلم.
وفي مسند الإمام أحمد، عن سَمُرَة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « وَلَدُ نوح ثلاثة:سام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك » . قال بعض العلماء:هؤلاء من نسل يافث أبي الترك، قال: [ إنما سموا هؤلاء تركًا؛ لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة، وإلا فهم أقرباء أولئك، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة . وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثرًا طويلا عجيبًا في سير ذي القرنين، وبنائه السد، وكيفية ما جرى له، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم، [ وطولهم ] وقصر بعضهم، وآذانهم . وروى ابن أبي حاتم أحاديث غريبة في ذلك لا تصح أسانيدها، والله أعلم.
وقوله: ( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا ) [ أي ] :لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس.
( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ) قال ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس:أجرًا عظيمًا، يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالا يعطونه إياه، حتى يجعل بينهم وبينهم سدًا. فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير: ( مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) أي:إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، كما قال سليمان عليه السلام: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [ النمل:36 ] وهكذا قال ذو القرنين:الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه، ولكن ساعدوني ( بِقُوَّةٍ ) أي:بعملكم وآلات البناء، ( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) والزبر:جمع زُبْرَة، وهي القطعة منه، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. وهي كاللبنة ، يقال:كل لبنة [ زنة ] قنطار بالدمشقي، أو تزيد عليه.
( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) أي:وضع بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رءوس الجبلين طولا وعرضًا. واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال. ( قَالَ انْفُخُوا ) أي:أجج عليه النار حتى صار كله نارًا، ( قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسُّدي:هو النحاس. وزاد بعضهم:المذاب. ويستشهد بقوله تعالى: وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [ سبأ:12 ] ولهذا يشبه بالبرد المحبر.
قال ابن جرير:حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال:ذكر لنا أن رجلا قال:يا رسول الله، قد رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال: « انعته لي » قال:كالبرد المحبر، طريقة سوداء. وطريقة حمراء. قال: « قد رأيته » . هذا حديث مرسل.
وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه، ووجه معه جيشًا سرية، لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا. فتوصلوا من بلاد إلى بلاد، ومن مُلْك إلى مُلْك، حتى وصلوا إليه، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس، وذكروا أنهم رأوا فيه بابًا عظيمًا، وعليه أقفال عظيمة، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك. وأن عنده حرسًا من الملوك المتاخمة له، وأنه منيف عال ، شاهق، لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال. ثم رجعوا إلى بلادهم، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين، وشاهدوا أهوالا وعجائب.
ثم قال الله تعالى:
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ( 97 )
يقول تعالى مخبرًا عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا فوق هذا السد ولا قدروا على نقبه من أسفله. ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه فقال: ( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه، ولا على شيء منه.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا روح، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، حدثنا أبو رافع، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم:ارجعوا فستحفرونه غدًا فيعودون إليه كأشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس [ حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ] قال الذي عليهم:ارجعوا فستحفرونه غدًا إن شاء الله. ويستثني، فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه ويخرجون على الناس، فينشفون المياه، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، [ فترجع وعليها هيئة الدم، فيقولون:قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ] . فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم، فيقتلهم بها » . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « والذي نفسي بيده، إن دواب الأرض لتسمن، وتشكر شكرًا من لحومهم ودمائهم » .
ورواه أحمد أيضًا عن حسن - هو ابن موسى الأشيب- عن سفيان، عن قتادة، به . وكذا رواه ابن ماجه، عن أزهر بن مروان، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة قال:حدث رافع. وأخرجه الترمذي، من حديث أبي عوانة، عن قتادة . ثم قال:غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وهذا إسناده قوي، ولكن في رفعه نكارة؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه، لإحكام بنائه وصلابته وشدته. ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار:أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون:غدًا نفتحه. فيأتون من الغد وقد عاد كما كان، فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل، فيقولون كذلك، ويصبحون وهو كما كان، فيلحسونه ويقولون:غدًا نفتحه. ويلهمون أن يقولوا: « إن شاء الله » ، فيصبحون وهو كما فارقوه، فيفتحونه. وهذا مُتَّجه، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب. فإنه كثيرًا ما كان يجالسه ويحدثه، فحدث به أبو هريرة، فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع، فرفعه، والله أعلم.
ويؤكد ما قلناه - من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه، ومن نكارة هذا المرفوع- قول الإمام أحمد:
حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن [ زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن أمها أم حبيبة، عن ] زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم - قال سفيان:أربع نسوة- قالت:استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه. وهو محمر وجهه، وهو يقول: « لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا » . وحَلَّق. قلت:يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: « نعم إذا كثر الخبث » .
هذا حديث صحيح، اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، من حديث الزهري ، ولكن سقط في رواية البخاري ذكر حبيبة، وأثبتها مسلم. وفيه أشياء عزيزة نادرة قليلة الوقوع في صناعة الإسناد، منها رواية الزهري عن عروة، وهما تابعيان ومنها اجتماع أربع نسوة في سنده، كلهن يروي بعضهن عن بعض. ثم كل منهن صحابية ، ثم ثنتان ربيبتان وثنتان زوجتان، رضي الله عنهن.
وقد روي نحو هذا عن أبي هريرة أيضًا، فقال البزار:حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا مُؤمَّل بن إسماعيل، حدثنا وهيب ، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « فُتِح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا » وعقد التسعين. وأخرجه البخاري ومسلم من حديث وهيب ، به .

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ( 98 ) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ( 99 ) .
وقوله: ( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) أي:لما بناه ذو القرنين ( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) أي:بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العيث في الأرض والفساد. ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي ) أي:إذا اقترب الوعد الحق ( جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) أي:ساواه بالأرض. تقول العرب:ناقة دكاء:إذا كان ظهرها مستويًا لا سنام لها. وقال تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [ الأعراف:143 ] أي:مساويًا للأرض .
وقال عكرمة في قوله: ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) قال:طريقًا كما كان.
( وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) أي:كائنًا لا محالة.
وقوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ [ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ] ) أي:الناس يومئذ أي:يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم، وهكذا قال السدي في قوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال:ذاك حين يخرجون على الناس. وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال، كما سيأتي بيانه [ إن شاء الله تعالى ] عند قوله: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [ الأنبياء:96 ، 97 ] وهكذا قال هاهنا: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) قال ابن زيد في قوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال:هذا أول يوم القيامة، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) على أثر ذلك ( فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) .
وقال آخرون:بل المراد بقوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) أي:يوم القيامة يختلط الإنس والجن.
وروى ابن جرير، عن محمد بن حميد، عن يعقوب القمي عن هارون بن عنترة، عن شيخ من بني فزارة في قوله: ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال:إذا ماج الإنس والجن قال إبليس:أنا أعلم لكم علم هذا الأمر. فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض، ثم يظعن إلى المغرب فيجد الملائكة بطنوا الأرض فيقول: « ما من محيص » . ثم يظعن يمينًا وشمالا إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة بطنوا الأرض فيقول: « ما من محيص » فبينما هو كذلك، إذ عرض له طريق كالشراك، فأخذ عليه هو وذريته، فبينما هم عليه إذ هجموا على النار، فأخرج الله خازنًا من خزان النار، فقال:يا إبليس، ألم تكن لك المنـزلة عند ربك؟! ألم تكن في الجنان؟! فيقول:ليس هذا يوم عتاب، لو أن الله فرض عليّ فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه. فيقول:فإن الله قد فرض عليك فريضة. فيقول:ما هي؟ فيقول:يأمرك أن تدخل النار. فيتلكأ عليه، فيقول به وبذريته بجناحيه فيقذفهم في النار. فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مُرسل إلا جثا لركبتيه
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. رواه من وجه آخر عن يعقوب، عن هارون عن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال:الجن الإنس، يموج بعضهم في بعض.
وقال الطبراني:حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصفهاني ، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، حدثنا أبو داود الطيالسي، حدثنا المغيرة بن مسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا، وإن من ورائهم ثلاث أمم:تاويل، وتايس ومنسك » . هذا حديث غريب بل منكر ضعيف.
وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبيه، عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعًا: « إن يأجوج ومأجوج لهم نساء، يجامعون ما شاؤوا، وشجر يلقحون ما شاؤوا، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا »
وقوله: ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) :والصور كما جاء في الحديث: « قرن ينفخ » فيه والذي ينفخ فيه إسرافيل، عليه السلام، كما قد تقدم في الحديث بطوله، والأحاديث فيه كثيرة.
وفي الحديث عن عطية، عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعًا: « كيف أنعم، وصاحب القَرْن قد التقم القَرْن، وحنى جبهته واستمع متى يؤمر » . قالوا:كيف نقول؟ قال: « قولوا:حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا »
وقوله ( فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) أي:أحضرنا الجميع للحساب قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [ الواقعة:49 ، 50 ] ، وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [ الكهف:47 ]
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ( 100 ) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ( 101 ) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا ( 102 )
يقول تعالى مخبرًا عما يفعله بالكفار يوم القيامة:أنه يعرض عليهم جهنم، أي:يبرزها لهم ويظهرها، ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها، ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم.
وفي صحيح مسلم، عن ابن مسعود قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زِمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك [ يجرونها ] »
ثم قال مخبرًا عنهم: ( الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ) أي:تعاموا وتغافلوا وتصاموا عن قبول الهدى واتباع الحق، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [ الزخرف:36 ] وقال هاهنا: ( وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ) أي:لا يعقلون عن الله أمره ونهيه.
ثم قال ( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ) أي:اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك، وينتفعون بذلك؟ كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [ مريم:82 ] ؛ ولهذا أخبر أنه قد أعدّ لهم جهنم يوم القيامة منـزلا.
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ( 103 ) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( 104 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ( 105 ) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ( 106 ) .
قال البخاري:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عَمْرو، عن مُصْعَب قال:سألت أبي - يعني سعد بن أبي وقاص- : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) أهم الحَرُورية؟ قال:لا هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى كفروا بالجنة، وقالوا:لا طعام فيها ولا شراب. والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. وكان سعد رضي الله عنه، يسميهم الفاسقين .
وقال علي بن أبي طالب والضحاك، وغير واحد:هم الحرورية.
ومعنى هذا عن علي، رضي الله عنه:أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نـزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء بل هي أعم من هذا؛ فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول، وهو مخطئ، وعمله مردود، كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [ الغاشية:2- 4 ] وقوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ الفرقان:23 ] وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39 ] .
وقال في هذه الآية الكريمة: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ) أي:نخبركم ( بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا ) ؟ ثم فسرهم فقال: ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أي:عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة، ( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) أي « يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون.»
وقوله: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ) أي:جحدوا آيات الله في الدنيا، وبراهينه التي أقام على وحدانيته، وصدق رسله، وكذبوا بالدار الآخرة، ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) أي:لا نثقل موازينهم؛ لأنها خالية عن الخير .
قال البخاري:حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا المغيرة، حدثني أبو الزَّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة » وقال: « اقرؤوا إن شئتم: ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) .»
وعن يحيى بن بُكَيْر، عن مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، مثله .
هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقا . وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق، عن يحيى بن بكير، به .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن صالح مولى التَّوْأمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم، فيوزن بحبة فلا يزنها » . قال:وقرأ: ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا )
وكذا رواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن أبي الصلت، عن أبي الزناد، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، مرفوعًا فذكره بلفظ البخاري سواء.
وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار:حدثنا العباس بن محمد، حدثنا عون بن عُمَارة حدثنا هشام بن حسان، عن واصل، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال:كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له. فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يا بريدة، هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنًا » .
ثم قال:تفرّد به واصل مولى أبي عنبسة وعون بن عُمَارة وليس بالحافظ، ولم يتابع عليه. وقد قال ابن جرير أيضًا:حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن شمر عن أبي يحيى، عن كعب قال:يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا: ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) .
وقوله: ( ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا ) أي:إنما جازيناهم بهذا الجزاء جهنم، بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزوًا، استهزءوا بهم، وكذبوهم أشد التكذيب.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا ( 107 ) خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ( 108 )
يخبر تعالى عن عباده السعداء، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوهم فيما جاؤوا به بأن لهم جنات الفردوس.
قال مجاهد:الفردوس هو:البستان بالرومية.
وقال كعب، والسدي، والضحاك:هو البستان الذي فيه شجر الأعناب.
وقال أبو أمامة الفردوس:سرة الجنة.
وقال قتادة:الفردوس:ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها.
وقد روي هذا مرفوعًا من حديث سعيد بن بشير ، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « الفردوس ربوة الجنة، أوسطها وأحسنها »
وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة مرفوعًا. وروي عن قتادة، عن أنس بن مالك مرفوعًا بنحوه. وقد نقله ابن جرير، رحمه الله
وفي الصحيحين: « إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تُفَجَّرُ أنهار الجنة »
وقوله: ( نـزلا ) أي ضيافة، فإن النـزل هو الضيافة.
وقوله: ( خَالِدِينَ فِيهَا ) أي:مقيمين ساكنين فيها، لا يظعنون عنها أبدًا، ( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ) أي:لا يختارون غيرها، ولا يحبون سواها، كما قال الشاعر
فَحَّـلْت سُـوَيدا القَلْـب لا أنَـا بَاغيًـا ســواها ولا عَــنْ حُبّهـا أتَحـوّلُ
وفي قوله: ( لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ) تنبيه على رغبتهم فيها، وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه يسأمه أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنًا ولا رحلة ولا بدلا
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ( 109 ) .
يقول تعالى:قل يا محمد:لو كان ماء البحر مدادًا للقلم الذي تكتب به كلمات ربى وحكمه وآياته الدالة عليه، ( لَنَفِدَ الْبَحْرُ ) أي: [لفرغ البحر ] قبل أن يفرغ من كتابة ذلك ( وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ ) أي:بمثل البحر آخر، ثم آخر، وهلم جرا، بحور تمده ويكتب بها، لما نفدت كلمات الله، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ لقمان:27 ] .
قال الربيع بن أنس:إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنـزل الله ذلك: ( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) .
يقول:لو كان البحر مدادا [ لكلمات الله ] ، والشجر كله أقلام ، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول ، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة ، كحبة من خردل في خلال الأرض [ كلها ] .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110 ) .
روى الطبراني من طريق هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن قيس الكوفي، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان أنه قال:هذه آخر آية أنـزلت .
يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ ) لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم: ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) فمن زعم أني كاذب، فليأت بمثل ما جئت به، فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي، عما سألتم من قصة أصحاب الكهف، وخبر ذي القرنين، مما هو مطابق في نفس الأمر، لولا ما أطلعني الله عليه، وأنا أخبركم ( أَنَّمَا إِلَهُكُمْ ) الذي أدعوكم إلى عبادته، ( إِلَهٌ وَاحِدٌ ) لا شريك له، ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ ) أي:ثوابه وجزاءه الصالح، ( فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا ) ، ما كان موافقًا لشرع الله ( وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل. لا بد أن يكون خالصًا لله، صوابُا على شريعة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] . وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر، عن عبد الكريم الجَزَري، عن طاوس قال:قال رجل:يا رسول الله، إني أقف المواقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني. فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا. حتى نـزلت هذه الآية: ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) .
وهكذا أرسل هذا مجاهد، وغير واحد.
وقال الأعمش:حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم، عن شَهْر بن حَوْشَب قال:جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال:أنبئني عما أسألك عنه:أرأيت رجلا يصلي، يبتغي وجه الله، ويحب أن يُحْمَد، ويصوم ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويتصدق ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، ويحج ويبتغي وجه الله، ويحب أن يحمد، فقال عبادة:ليس له شيء، إن الله تعالى يقول: « أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله، لا حاجة لي فيه » .
وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، ثنا كثير بن زيد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده قال:كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبيت عنده، تكون له الحاجة، أو يطرقه أمر من الليل، فيبعثنا. فكثر المحتسبون وأهل النُّوب، فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « ما هذه النجوى؟ [ ألم أنهكم عن النجوى ] . قال:فقلنا:تبنا إلى الله، أي نبيّ الله، إنما كنا في ذكر المسيح، وفرقنا منه، فقال: » ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟ « قال:قلنا:بلى. قال: » الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل « . »
وقال الإمام أحمد:حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد - يعني ابن بَهْرَام- قال:قال شَهْر بن حَوْشَب:قال ابن غنم:لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء، لقينا عبادة بن الصامت، فأخذ يميني بشماله، وشمال أبي الدرداء بيمينه، فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى، والله أعلم بما نتناجى به، فقال عبادة بن الصامت:إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما، لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين - يعني من وسط- قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبدأه، وأحل حلاله وحرم حرامه، ونـزل عند منازله، لا يَحُورُ فيكم إلا كما يَحُور رأس الحمار الميت. قال:فبينما نحن كذلك، إذ طلع شداد بن أوس، رضي الله عنه، وعوف بن مالك، فجلسا إلينا، فقال شداد:إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من الشهوة الخفية والشرك » . فقال عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء:اللهم غفرًا. أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب. وأما الشهوة الخفية فقد عرفناها، هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟ فقال شداد:أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل، أو يصوم لرجل، [ أو تصدق له، أترون أنه قد أشرك؟ قالوا:نعم، والله إنه من صلى لرجل أو صام له ] أو تصدق له، لقد أشرك. فقال شداد:فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ يقول ] :من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك؟ « فقال عوف بن مالك عند ذلك:أفلا يعمد الله إلى ما ابتغي به وجهه من ذلك العمل كله، فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به؟ فقال شداد عن ذلك:فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: »إن الله يقول:أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئًا فإن [ حَشْده ] عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، وأنا عنه غني « .»
طريق [ أخرى ] لبعضه:قال الإمام أحمد:حدثنا زيد بن الحُبَاب، حدثني عبد الواحد بن زياد، أخبرنا عبادة بن نُسيّ، عن شداد بن أوس، رضي الله عنه، أنه بكى، فقيل له:ما يبكيك؟ قال:شيء سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله [ فذكرته ] فأبكاني، سمعت رسول الله يقول: « أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية » . قلت:يا رسول الله، أتشرك أمتك [ من بعدك؟ ] قال: « نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا، ولا حجرًا ولا وثنًا، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائمًا فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه .»
ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذَكْوَان، عن عبادة بن نُسيّ، به . وعبادة فيه ضعف وفي سماعه من شداد نظر.
حديث آخر:قال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا الحسين بن عليّ بن جعفر الأحمر، حدثنا عليّ بن ثابت، حدثنا قيس بن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله يوم القيامة:أنا خير شريك، من أشرك بي أحدًا فهو له كله » .
وقال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت العلاء يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، يرويه عن ربه، عز وجل، أنه قال: « أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا منه برئ، وهو للذي أشرك » . تفرّد به من هذا الوجه .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يونس، حدثنا لَيْث، عن يزيد - يعني ابن الهاد- عن عمرو، عن محمود بن لبيد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » . قالوا:وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: « الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم:اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء »
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن بكر أخبرنا عبد الحميد - يعني ابن جعفر- أخبرني أبي، عن زياد بن ميناء، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري - وكان من الصحابة- أنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى مناد:من كان أشرك في عمل عمله لله أحدًا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك » .
وأخرجه الترمذي وابن ماجه، [ من حديث محمد بن ] بكر وهو البُرساني، به
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا بكار، حدثني أبي - يعني عبد العزيز بن أبي بكرة - عن أبي بكرة، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به » .
وقال الإمام أحمد:حدثنا معاوية، حدثنا شيبان، عن فراس، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:« من يرائي يرائي الله به، ومن يسمع يسمع الله به » .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، حدثني عمرو بن مرة، قال:سمعت رجلا في بيت أبي عبيدة؛ أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من سَمَّع الناس بعمله سَمَّع الله به، سامع خلقه وصغره وحقره » [ قال ] :فذرفت عينا عبد الله .
وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي، حدثنا الحارث بن غسان، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أنس، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله، عز وجل، يوم القيامة في صحف مختومة ، فيقول الله:ألقوا هذا، واقبلوا هذا، فتقول الملائكة:يا رب، والله ما رأينا منه إلا خيرًا. فيقول:إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي » .
ثم قال الحارث بن غسان:روى عنه جماعة وهو بصري ليس به بأس
وقال ابن وهب:حدثني يزيد بن عياض، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبد الله بن قيس الخزاعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « من قام رياء وسمعة، لم يزل في مقت الله حتى يجلس » .
وقال أبو يعلى:حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا محمد بن دينار، عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص، عن عوف بن مالك، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه، عز وجل » .
وقال ابن جرير:حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكوني، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا ابن عياش ، حدثنا عمرو بن قيس الكندي؛ أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) وقال:إنها آخر آية نـزلت من القرآن.
وهذا أثر مشكل، فإن هذه الآية [ هي ] آخر سورة الكهف. والكهف كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينـزل بعدها ما تنسخها ولا يغير حكمها بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة، فروى بالمعنى على ما فهمه، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار:حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا أبو قُرَّرة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ في ليلة: ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) ، كان له من نور، من عدن أبين إلى [ مكة ] حشوه الملائكة غريب جدا.»
آخر [ تفسير ] سورة الكهف ولله الحمد

ليست هناك تعليقات